البابا كيرلس .. عِزَّتُه بالله وحده

الموقع الرسمى للمتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى
Anba Gregorios, Bishop of Scientific Research Website

أيها الأبناء اسمعوا كلمة المزمور ” طوبى للذين بك عزتهم ، فإن فى قلوبهم مراقى إليك ، يجتازون فى وادى البكاء فيجعلونه ينابيع ماء، لأن المشترع يغمرهم ببركاته فينطلقون من قوة إلى قوة إلى أن يتجلى لهم إله الآلهة فى صهيون فى أورشليم ” ( مزمور 84 : 5 – 7 )

هذا المزمور يلخص حياة البابا كيرلس ويترجم عن حياته ، طوبى للذين بك عزتهم ، ليس لهم ما يعتزون به . لا إرث ولا ماض ولا تاريخ ولا أسرة ولا غنى ولا عز ولا منصب من أى نوع .  كل هذا  – إذا وجد – كان يوجد ، ولكن لم يكن رجل كالبابا كيرلس عزه بأسرته ولا عزه بعلمه ولاعزه بشىء من هذا كله ، إنما كان عزه بالله، إعتزازه به . ومعنى الإعتزاز توجه القلب ، توجه القلب إلى أن يكون الله وحده بالنسبة له كل شىء ، معك يارب لاأريد شيئا على الأرض ، معك لا أريد شيئا ، أنت لى كل الغنى لا يعوزنى شىء بعدك ، وماذا أقتنى من هذه الدنيا ، فى رحلتى هذه التى أقضيها وأعود بعد ذلك إلى العالم الذى منه نزلت روحى ، ليس لى شىء هنا ، كله أحسبه نفاية . كله أحسبه زوال ، لا اعتماد لى على شىء إطلاقا إطلاقا ، لا اعتماد لى على هذا أبدا أبدا، لا اعتماد لى على شىء ، اعتمادى كله عليك .

هذا هو الراهب الحق ، لأن الرهبنة دعوة إختيارية إذا اتجه إليها القلب معناه أنه عزف عن كل شىء فى الدنيا ولم تعد له لذة فى شىء إلا فى واحد ، سعادته وسروره ، فرحه واكليله ، بهجته وغبطته ، سلامه ، وسنده فى الحياة ، إذا اشتدت الأزمة ليكن ما يكون ، إن قام على جيش فلن يخاف قلبى ، أنا مطمئن ، عزتى بواحد ، إعتزازى بواحد ، ليس بمن حولى من الناس ولا بمن يشيعوننى ولا هذه الشعبية التى يسمونها. لا .. ليست للراهب ولا للذى اتجه إلى الله ، إهتمام بأن تكون له شعبية أيا كانت ، ولا ماض ولا تاريخ ولا منصب ولا غنى ولا كرامة ولا شىء ، عزه بالله ، اعتزازه به وحده ، من أحب أبا أو أخا أو أما أو… فلا يستحقنى ، ومن أحب إبنا أو إبنة أكثر منى فلا يستحقنى ، من الذى يدعو الإنسان فى لحظة من لحظات حياته أن يقرر، أن يترك أباه وأمه وأسرته على الرغم من محبتهم له وتعلقهم به وأنهم يجدوا فيه آمالهم ، مَن الذى يدعوه أن يترك هذا كله ، لا أقول لأن يذهب إلى الدير ، ولكن إلى مغارة ، ماذا فى المغارة ؟ ماذا فيها ؟ حياة قاسية ، ومهما تكلمنا نحن فى مجال الكلام ليس كمن اختبر وليس كمن عاش ، ما الذى يدعو إنسانا أن يذهب ليعيش فى مغارة أو فى طاحونة على جبل ، أى إغراء هناك ، أى إغراء !! أية غواية ، أية جاذبية ، أى ثمن  لهذا كله ؟ من الذى أجبره ، من الذى ألزمه ، من الذى دفعه ، لا قهرا ولا إلزاما ولا ضغطا من أحد ، اختياره ، ما الذى يدعو الإنسان أن يأخذ هذا الإختيار ويقنع به ويسعد به ، حقيقة هذا هو طراز الناس الذين إعتزازهم بك وبك وحدك ، ليس لى شىء اعتز به ، ليس لى شىء اعتمد عليه ، ليس لى شىء أفتخر به ، ليس هناك شىء يكرمنى أمام الناس أو أمام التاريخ ، كل هذا .. قلبى قد انفطم ، قلبى قد انفطم منه ، لم يعد له إغراء ، ولم تعد له جاذبية ،عندى جاذبية واحدة نحو الواحد ، الحاجة إلى واحد ” فاختارت مريم النصيب الصالح الذى لن ينزع منها إلى الأبد ” .

اختار الرجل هذه الحياة ، عندما كنا شبابا صغارا صعدنا إليه على جبل المقطم ، فى عام 37 على ما أذكر فكان هو فى تلك الطاحونة . ولم تكن بعد صدرت إليه الأوامر أن يترك الطاحونة ، لأن الحرب العالمية لم تكن قد بدأت ، إنها بدأت فى سنة 1939 . صعدنا إليه فى تلك الطاحونة وكنا مجموعة من الشباب ، ولما كان العدد كبيرا على الطاحونة خرج بنا إلى الجبل  وجلس ، ولأول مرة أرى رجلا ، شعر رأسه كسد إنساب على ظهره إلى المقعدة  وكان يحتزم حزاما ، كأنه عسكرى ، هى المنطقة . جلس ونحن حوله وأخذ يحدثنا ببساطة وكان كعادته رجلا قليل الكلام وكنا نستثيره بالسؤال ، سألناه ونحن شباب كيف سمحت الأسرة بأن تأتى أو أن تختار هذا الطريق ؟ فقال : طبعا لم يكن هذا بالأمر الهين واستعان بالصلاة وأخيرا بعد جهد وبعد تعب لما رأوا عزيمته ورأوا رغبته ودَعّوه ، كانت لحظة قاسية على الأسرة، أما هو فكان سعيدا لأنه منذ تلك اللحظة أحس بأن هناك رابطة تربطه بهذا المبدأ وهذه القيمة الجديدة التى تفتحت فى حياته ، قيمة الرهبنة أن يعطى حياته كلها للمسيح ، وأن يبيع كل شىء ويشترى اللؤلؤة الكثيرة الثمن ، لم يكن فى فكره قطعا ولا شك ، لم يكن فى فكره قطعا يوم أن دخل الرهبنة أو يوم أن اختار هذا النوع من الحياة ، لم يكن فى فكره ماذا سيكون ؟ وهل سيعود إلى العالم مرة أخرى ؟ وهل ستكون له بعض المراكز القيادية فى الكنيسة ؟ كل هذا أعتقد أنه لم يكن فى حسبانه إطلاقا ، إنما كان الذى فى حسبانه أن بريقا برق فى حياته وأنار وشعر أن هناك نجما يسطع على رأسه فتطلع إليه وشخص نحوه واتجه إليه بقلبه وبعزيمته .

وهذا دليل على أن الرجل كان ذا عزيمة وإرادة قوية ، الأمر الذى يتعلم منه الشباب كيف تكون العزيمة وكيف تكون الإرادة ، لأنه فى ذلك الوقت الذى ترهب فيه البابا كيرلس حقيقة لم يكن هناك أبدا أى إتجاه عنده لأن يكون شيئا ، إنما شىء واحد هو الذى جذبه هو أن يكون كله لله مقدسا جسدا وروحا . طوبى للذين بك عزتهم .

وهو بطريرك ، وهو بطريرك كان حقيقة يحيا إنسانا لا يعتز بشىء، لايستند إلى شىء ، إلاّ للذى أحبه واتجه إليه ، حقيقة كان قلبه متجها إتجاها كاملا غير منقوص إلى واحد وواحد ليس له نظير ، لم تخدعه أبدا مشاعر الناس من حوله ، لم تخدعه بتاتا مكانته التى صار إليها ، لم يتحول قلبه بتاتا لحظة واحدة لأن يلجأ إلى وسيلة من الوسائل العادية البشرية ، أو الخطط الإنسانية لتكون سنده فى أى موقف من المواقف فى مدة حبريته كلها ، بقلب مطلق مات فيه كل طريق آخر ، حتى وهو بطريرك .

ولذلك إنى أؤمن تماما أن روحانيته كانت روحانية نقية ، ونقاوتها كاملة ، وكان حقا ممتلئا من النعمة ولم يكن هناك فراغ فى قلبه لشىء آخر ، لم يتحول بالمركز ولم يتغير ولاشعر يوما من الأيام أن سنده فى مركزه ، وأن سنده فى من يعرفهم من الناس سواء كانوا من المسئولين فى الدولة أو غيرهم حتى شعبه ، لا .. إن من عرف البابا كيرلس حقيقة وعاش معه قريبا إليه يعرف أن الرجل كان عزه بالله وحده . ولم يكن يعتز ولا يستند إلى أحد ، بل كان يتعامل مع الكل فى محبة ويسالم الكل لكنه لم يتطلع قلبيا إلى معونة من إنسان يسنده .

ولذلك مرت حياته كما تمر الحياة بالنسبة لكل إنسان ، ولكن خصوصا بالنسبة للقيادات الكبيرة ، ما كان يشكو الرجل أبدا أبدا ، ماسمعناه ولا رأيناه فى كل أزمة وفى أى أزمة يشكو ، يشكو من أحد من الخارج أو من الداخل إطلاقا ، إطلاقا ، إطلاقا . عندما تتأزم نفسه إما أن يعكف فى حجرته الداخلية عكوفا تاما بعد القداس اليومى ، منقطعا للعبادة والصلاة تماما . ولا يقابل أحدا ، مكرسا الوقت كله لهذه الخلوة لأن الشكوى لغير الله مذلة .

كانت شكواه سواء أكانت لأمر خاص أو لأمر عام يتصل بالكنيسة كلها إلى الله . لم يلجأ لأحد ، لم يستعن بأحد ، لم يستند إلى أحد ، لا رغبة للمشورة كان يسمع ما يقوله الناس وكان يسمع من أبسط بسيط ، من طفل كان يسمع ، ولكن قلبه لم يكن يتعلق إلاّ بواحد ، يسمع أصوات الناس ولكن هناك صوتاً واحداً أقوى من الجميع فى الدولة هو الذى يلجأ إليه . أو يترك البطريركية إلى الدير ويقضى أوقاتا طويلة قد تتصل أحيانا إلى شهور ، وهناك يحيا حياة الراهب ولكن قلبه قلب بطريرك وقلب أب مشغول بالكنيسة ، مشغول بها ، لم يكن متشاغلا عنها .

 وأنا أؤمن أن الرجل الآن أيضا مشغول بالكنيسة ، والآن لن تترك نفسه الإهتمام بالكنيسة ، أقول هذا الكلام لأنى أعلم تماما أنه فعلا مشغول بالكنيسة ، ولذلك فإن مشغوليته لم تكن قاصرة على أنه يهرب إلى الدير فى ذلك الوقت كما يبدو للبعض أنه فارق ، لكن قلبه كان مشغولا ، كان مشغولا بشعبه ، كان مشغولا بكل أحد .

 وإنى أعجب أنه كان يتقدم إليه كل رجل ، كل إمرأة ، كل شاب، كل شابة ، كل طفل ، ويحدثهم أحيانا فيما لا يليق أن يتحدث به البطريرك ، يحدثهم فى أمر يعدو أن يكون تافها ، لأنه يتصل بمسألة بسيطة يمكنه أن يلجأ فى حلها إلى أحد آخر ، ليست هذه مشغولية البطريرك ولكن مع هذا كان يندمج مع محبة كل واحد حتى فى الأمور التى لا تدخل فى إختصاصه كبطريرك ، لأنه كان له قلب أب ، وهذه الروحانية لم تمنعه أبدا من أن يُشغل بشعبه ويهتم بقضاياهم على الرغم من أنه راهب ، وأنه اتجه إلى الله لكنه مع هذا لم تمنعه رهبنته الصادقة الحقيقية الكاملة ، لم تمنعه أبدا من أن يمتلئ قلبه بمحبة شعبه ، محبة قائمة ودائمة ، والآن وقد انتقل إلى العالم الأفضل ودعى هذه الدعوة وانتقل وسافر ، وأصبح طبعا مشغولا بأعمال أخرى فى العالم الآخر وأصبح أكيد أنه موكول إليه ومسنود إليه مهام فى العالم الآخر لمساعدة الذين فى العالم الآخر ممن يكونون فى حاجة إليه وإلى مساعدته . لكنه مع هذا مشغول إلى اليوم بشعبه الذى لم تنقطع أبدا صلته بهم ، يزورهم وإذا قلت يزورهم أقول كان البابا ولازال للرجل موهبة غير عادية ، فليس فقط يظهر فى حلم ، إنما فى بعض الأحيان يُرى بشخصه لا فى حلم ، ليس مجرد صورة ذهنية ولكن يذهب بشخصه ، ويذهب بشخصه إلى بعض بلاد أوربا وإلى أمريكا ليساعد واحدا من أولاده الأقباط الذى يحبه ويؤمن بصلواته .

فى ذهنى وقائع كثيرة حدثنى بها أناس فى بلاد مختلفة خارج مصر كيف يتحرك البابا كيرلس الآن ليزور هؤلاء الأفراد لا فى حلم ولكن بشخصه ليساعدهم ، ويسندهم ويؤدى لهم خدمة لا أحد يقدر أن يؤديها.

 أقول لقد عرف الأجانب من غير كنيستنا فى أوربا بمختلف بلادها وفى أمريكا وفى استراليا ، عرف هؤلاء الأجانب الآن البابا كيرلس عن طريق أولاده الأقباط الذين هاجروا إلى تلك البلاد ، ولمسوا عنايته بهم  وإجابته لهم ومساعدته لهم  وحكوا ويحكون للأجانب ، فصار الأجانب على علم بالبابا كيرلس وبالقديس مارمينا ، ولم تكن لهم معرفة لا بمارمينا ولا بالبابا كيرلس من قبل . لكن ظهور البابا الآن فى كل هذه البلاد البعيدة والقريبة جعل هؤلاء الأجانب يعرفون من هو البابا كيرلس ، وإذا قلت الأجانب أقول أيضا أشخاصاً من غير المسيحيين .

فى ذهنى الآن قصة صغيرة حديثة ، حدثت لواحدة من بناتنا فى كندا ، هذه الإبنة طبيبة ، دكتورة صغيرة شابة ، أصيبت بالسرطان وتفاقم المرض جدا جدا جدا وصار فى المرحلة الأخيرة وصارت تنتظر الموت لا محال ، وطبيبها فى كندا ( بوديست ) ديانته بوذى ليس مسيحياً ، من أتباع بوذا فى الهند . هذه السيدة أو الإبنة الطبيب يعلم أنها لابد أن تموت ، لأن السرطان انتشر فى جسمها كله، وأصبحت فى المرحلة الأخيرة النهائية التى تنتظر ساعات أو أيام لكى تنتهى .

هذه الإبنة لها إيمان وسمعت أن للبابا كيرلس له شال ، وطلبت هذا الشال أنه يذهب لها هناك فى كندا ، لا أعلم كيف حُمل إليها ووصل إليها هذا الشال ووضعته على جسمها وشفيت شُفاءً تاما من هذا السرطان ، تعجب الرجل البوذى ، كيف ، كيف هذا ، أمر لا يمكن أبدا أن يخضع لأى مقاييس عقلية أو منطقية أو طبيعية ، شىء فوق الطبيعة، كيف هذا . فأرته هذه الإبنة هذا الشال .

وبهذا قد يكون قد وصل إلى هذا الرجل البوذى هذه اللمسة الروحانية من عالم الروح ، هذه اللمسة المسيحية الإلهية التى يظهر بها مجد المسيح وكرامة المسيح وكرامة ديانتنا .

هذا الرجل البابا كيرلس لم يكن يباشر الوعظ ، كان يباشره عندما كان صغيرا شابا فى مدرسة الرهبان اللاهوتية فى حلوان ، قيل عنه أنه كان يعظ وكانت مواعظه طويلة ، ولكن بعد أن تقدم فى السن تقلصت مواعظه وتقلصت كلماته وصارت كلماته معدودة ، معدودة وقليلة لكن كل كلمة منها لا أقول عظة ولا أقول درس ولا أقول نبوءة ، إنما كل هذا معا .

كان رجلاً سفير السماء على الأرض والسفارة تنتسب إلى البلد التى هى منها لا إلى البلد التى هى فيها .

كان البابا كيرلس سفيرا من يتطلع إليه يقول هذا هو الدين ، الدين متمثلا فى رجل الدين ، والناس لا يفهمون الدين منفصلا عن رجال الدين ، والناس هنا ليسوا هم المسيحيون فقط وإنما غير المسيحيين لا يفهمون الدين منفصلا عن رجال الدين .

كان البابا كيرلس رجل الله ، من يتطلع إليه يقول هوذا الله ، لأن الله غير منظور إنما يراه الناس فى مثل هذا الرجل ، وفعلا نجح ، نجح نجاحا نادرا فى أن يقدم الله إلى الناس ، وأن يرى الناس الله نقيا غير مشوب بعوامل أخرى بشرية . الله فى صورته الحقيقية .

 هذا الرجل نجح نجاحا يندر أن ينجحه إنسان إلا قلة قليلة بأن يجعل نفسه لا شىء وأن يكون الله كله فيه ، وهذا هو ما يسمى فى الرهبنة مقام الفناء والبقاء بعد الفناء .

هل يفنى الإنسان ؟ لا أحيا أنا ، هذا هو مقام الإماتة، الإماتة الإرادية ، أن يموت الإنسان حقا بإرادته ، يموت عن شخصه ، يموت عن آنيته وعن أنانيته ، ولم يعد شىء منه باق ، فنى ، ضاع ، امتص ، لأنه اتحد بالله ، اتحد به ، فذاب هو ، وزال هو وصار الله كل شىء  فيه . ضاع هو ، زال هو ، وصار الله كل شئ فيه .

هذا هو الفناء ، الفناء والبقاء بعد الفناء ، هناك له بقاء لكن البقاء ليس له لأنه فنى فى الله ، إنما صار البقاء لله .

حقا كان البابا كيرلس عزته فى الله ، عزته فى الله . وها نحن نقول هذا الكلام لا من قبيل الأدب ولا من قبيل المحسنات البديعية ، لا .. أبدا أبدا ، هذا كلام حق وصدق وعمل ، الذى عرف الرجل عن قرب نظراته ، حركاته ، سكناته ، إشعاعاته التى كانت تشع منه أو المغنطة التى كان يمغنط بها الجو من حوله ، كلها تترجم أن هذا الرجل عزه لله وحده ، وأنه قد فنى عن نفسه ولم يعد له فى ذاته بقاء إلاّ بقاء الله فيه .

ياأولادنا هذا الرجل سيرته غنية ، لكنها سيرة إنسان لا من الخارج بل من الباطن ، كل مجده كمجد العذراء مريم ، مجدها من داخل .

هذا الرجل من طراز الذى نزل إلى الأعماق ، أكثرنا فى دنيانا وفى عالمنا الحاضر فى وضع أفقى وننشر التعليم نشرا أفقيا ، من طراز العلم للملايين . إنما البابا كيرلس كان من طراز القدامى ، الذى يدخل كالنبت الذى يدفن فى الأرض أولا قبل أن يظهر ظاهرا.

شىء طبيعى أننا عندما نزرع زرعاً نتوقع أنه يعلو إلى فوق ، لكن لكى نزرع الزرع ندفنه تحت ، ما هذا ؟ هذه طريقة الله ، طريقة ربنا لازم الحبة تدفن فى الأرض ، تموت فى الأرض ، لماذا ؟ لكى تُكّون جذوراً من تحت ، لكى بعد ذلك عندما تظهر على السطح لا يهزها الهواء ولا يقتطعها أى شىء لأن لها جذوراً تحت . فى بعض الأحيان بعض الشجر يصل جذره إلى ضعف طوله ، ولذلك عندما تهتز النخلة، هذه الهزة لن تضرها بل تفيدها لأنها تزيدها ثباتا فى الأرض .

زماننا الآن بصفة عامة ليس فقط الكنيسة ، الزمن الذى نحن فيه ، فيه كثير من السطحية ، سطحية فى أشياء كثيرة حتى فى الخدمة ، لكن ينبغى من وقت لآخر أن نجد ، وشكرا لله أننا وجدنا ، ربنا أنعم علينا بأن ننال هذه الغبطة وهذه السعادة أن يكون فى زماننا رجل دينه من داخل لا من السطح، وجذوره مخفية تحت الأنظار لا يراها أحد .

البابا كيرلس عندما كان فى حياته ، فى أيام المناسبات المختلفة لم نكن نرى هذه الأعداد الكبيرة من شعبنا ملتف حوله ، وهذه مسألة لها معناها ولها قيمتها . وبهذه الأعداد الكبيرة وفى هذه السنوات المتعددة 14 سنة ، وفى دير مارمينا عشرات الألوف أحيانا يقدر العدد بخمسين ألف ، كل هؤلاء لمن يذهبون ؟ البابا كيرلس غير موجود ، إخوته غير موجودين ، لمن حضروا ؟ ولماذا حضروا أكثر مما كان فى حياته ؟ هذا أمر عجيب الحقيقة ، وأمر يلفت النظر ، وأمر يدل على أن هذا الرجل حقيقة عميق لم يفهم فى زمانه بقدر مافهم الآن على حقيقته ، ولا أكتمكم أننى أذكر يوما من الأيام أننى قلت أن هذا الرجل لن يفهم إلاّ بعد خمسين سنة . لكن المسألة لم تصل إلى 50 سنة ، الحمد لله الآن أرى فى أى منطقة فى أعماق الصعيد ، يقولون لماذا لا تنادون بالبابا كيرلس قديسا ، لماذا لا يصدر تصريح رسمى بقداسة البابا كيرلس ويضم إلى قديسى الكنيسة كما ضم الأنبا ابرام أسقف الفيوم !! لماذا ؟؟ كلام نسمعه من شعبنا فى كل مكان ، اليوم الناس مستعجلون . وطبعا قبل أن تصدر الكنيسة رسميا هذا القرار ، القرار قرار شعبنا لأنه الأول تبدأ مشاعر الشعب ومحبته للرجل قبل أن يتحرك الناس المسئولون .

والحمد لله كون الناس اليوم يعرفون البابا كيرلس أكثر مما كانوا يعرفونه فى حياته ، هذا يُذّكى الرجل ويظهر من أى عنصر كان هذا الرجل ، وأنه كان ذاك الطراز العميق الذى غالبا لم يكن يُفهم على الأقل من الكثيرين .

وفعلا كانت له تصرفات ، السطحيون من الناس لم يفهموها وربما كانوا يعترضون عليها ، ولا يمضى إلا بعض الوقت حتى يتبينوا كم كان الرجل حكيما ، كم كان الرجل بعيد النظر ، كم كانت نظرته نظرة صادقة وإلى العمق ، لم يكن ينساق ولا يندفع مما يظهر ومما يحكم الناس به حكما ظاهرا .

وهذا أيضا دليل على أن هذا الرجل كان يعيش فى أعماقه أعظم مما كان يعيش ظاهرا ، والآن يعيش أكثر وأكثر وأكثر وإنى أؤمن تماما أن الرجل الآن نما ، نما ، نما فى الفضيلة وفى الروحانية أكثر مما كان بيننا  لأنه الآن حى ، حى وفى حياته ينمو . وكل كائن حى لابد أن ينمو ، هو الآن أفضل مما كان عندنا وهو الآن يتحرك لمساعدة واسعة النطاق فى عالمنا وغير عالمنا .

فى عالمنا ليس فى مصر فقط وإنما كما قلنا فى كل بلاد المعمورة يتحرك الآن ، يساعد ولكن أيضا هذا الرجل له معونته ومساعداته فى العالم الآخر للآخرين ، لأنه لا يمكن أن يكون الصغار ممن خرجوا من عالمنا فى غنى عن أن يتعلموا من الروحانيين الكبار ما يرفعهم فوق مستواهم ، فإن حركة التعليم فى العالم الآخر ممتدة إلى أبد الآبدين لأن المسيح يقول ” كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات كامل ” .

لا أريد أن اتكلم أكثر من هذا لكننى أتجه إليه وأراه وندعوه أن يواصل رعايته لنا ودعواته من أجلنا وصلواته وبركاته ومساعداته وكل أنواع المعونة ، تحول الرجل إلى طاقة جبارة وإلى قوة لأن الروح الذى فيه من الله .

حقيقة كل منا له هذه الروح التى من الله والتى على صورة الله، لكن من منا استطاع أن يشد هذه الروح لتكون مطابقة للصورة التى خلقه الله عليها ، وينمو ويتقدم ويزداد فى شعلة الروحانية ويتوهج ويصير وهجا له بريقه وله سطوعه على كل الآخرين .

فلتشملنا بركته الآن وإلى أجيال وسنوات قادمة أعاد الله عليكم الأيام بخير ، وحفظ الله هذه الكنيسة المباركة وأدامها ، وجعلها دائما مقرا للقداسة والروحانية وللملائكة وللمسيح الذى ينزل دائما على مذبحها ليكون هو شجرة الحياة الحقيقية الذى من يأكل منه يحيا إلى الأبد له الإكرام والمجد إلى الأبد آمين .