الحق أيها الأخوة والأبناء إننى بعد أن أستمعت إلى هذه الكلمات التى تأثرت بها جدا ، والتى أشعر أننى تتلمذت على المتكلمين بها ، كنت معتزما أن أكتفى خصوصا وقد تأخر الوقت لأنكم سمعتم خبرات عملية تكفى غذاءً لأرواحنا بعد خدمة القداس الالهى .
ولكن إذا كان لا مفر من كلمة إضافية ، وأرجو أن تكون قصيرة على قدر ما أستطيع ، فهى فى الواقع أنه لفت نظرى أن فصول القراءة فى هذا اليوم تنطبق شديد المطابقة على المناسبة التى نحن نحتفل بها .
أما الإنجيل المقدس وهو من الأصحاح السادس من إنجيل معلمنا لوقا البشير فيتكلم عن القيادة ، ” هل يقدر أعمى أن يقود أعمى أما يسقط الاثنان فى حفرة ” !!
هل يقدر أعمى أن يقود أعمى ؟ الحق أن هذا الرجل أبونا ومعلمنا الروحانى كان قائدا لكنه كان قائداً مبصراً ، ونحن هنا لا نتكلم فى محسنات بديعية ، كان رجلاً بصيرته مستنيرة ولذلك شاء الله أن يجعله بحق فى موضع القيادة فكان جديرا بالقيادة كبطريرك ، على الرغم مما يمكن أن يقال عن بساطة الرجل وربما عندما يحك بمحك المتعلمـين ، يٌحسب أنه لم يكن من الحاصلين على الشهادات الكثيرة ، وحُكم عليه أيضا بأنه لم يكن متكلما ، إنما البابا كيرلس كان قائدا بكل مفهوم كلمة القيادة فى معانيها الروحية . وكان قائدا مبصرا ، حقيقة كان مفتوح العينين وكان مفتوح الأذنين . مفتوح العينين بمعنى أنه كان يرى ما لايراه الإنسان بعينه المجردة ، وكان مفتوح الأذنين لأنه كان يسمع ، كان يسمع غير الأصوات العادية التى يسمعها الإنسان بأذنيه الطبيعيتين. لأن هذا الرجل دخل إلى أعماق الحياة الروحية .
لم يكن سطحيا وعمقه هو الذى جعله أن يكون صامتا ، ودخوله إلى الروحانية هو الذى جعله أن يغطى نفسه بستار يراه الناس فيظنونه لايعلم .
الله تعالى عَلَّمه ما لم يعلم به آخرون ، وكان يسمع أمورا لا نسمعها نحن ، هذا الكلام كل الذين عاصروه يعرفونه ، يعرفون قوة هذه الكلمات ، كان الرجل مفتوح العينين وهذا تعبير من الكتاب المقدس، من التوراة ، كان مفتوح العينين فكان يرى ولذلك كان بحق قائدا .
وشكراً لله هذه نعمة لكنيستنا أن يكون على رأسها رجل بهذه الروحانية وبهذا القدر من العمق . بلغ صوته إلى أقطار بعيدة ، ولا أنسى عندما جاء البطريرك المسكونى أثيناغوراس الذى رحل هو أيضا إلى العالم الآخر ، حينما استقبلناه بالقاعة المرقسية تحدث عن سيرة البابا كيرلس وكيف وصلت خارج مصر ، وعن طريقه أعطى صورة لروحانية الآباء الكبار فوصفه بأن له روحانية أنطونيوس وبولا ومقاريوس وغيره من الآباء الكبار الذين قرأ هذا البطريرك عنهم ، لكنه رأى فى البابا كيرلس الصورة الحية لهؤلاء الآباء الكبار . كيف وصلت سيرة البابا كيرلس إلى الأماكن البعيدة ، وأقول لكم الآن أن سيرة البابا كيرلس وصلت إلى بلاد كثيرة ، ربما عن طريق الأقباط الذين هاجروا ، حتى أننا أصبحنا نسمع عن البابا كيرلس من أجانب فى ألمانيا وفى النمسا وفى إنجلترا وفى كندا وفى أمريكا وفى استراليا ، ليس الأقباط فقط إنما الأجانب أيضا ، بل والأجانب أيضا أصبحوا يعرفون مارمينا ، عن طريق معرفتهم بالبابا كيرلس السادس .
هذا الرجل الصامت كان واعظا ، أقدر من ألف واعظ على ألف منبر ، بسيرته وبقدوته ، سيرة عملية لن تجد فارقا ولن تجد فاصلا بين ما يؤمن به وبين ما يعمل ، بل العمل الذى كان يعمله يترجم عن التعليم الذى يؤمن به من دون أن ينطق ومن دون أن يتكلم وهذا أعمق ما فى المسيحية .
لذلك كان البابا كيرلس راهبا بكل ما فى هذه الكلمة من معنى ، والرهبنة قوة المسيحية ، القوة الدافعة من ورائها ، وكان عمليا يقدم صورة الراهب الروحانى المفتوح العينين ، الذى يرى والذى يسمع والذى يتعامل مع العالم الآخر بسهولة ويسر وكأنه واحد منهم ، كان فى الأرض إنما كان عقله فى السماء . كان بين الناس إنما كانت روحه تنفذ من جسده وتتحرك فى بيوت المؤمنين ليصنع خيرا ، شىء غريب كنا نقرأه عن السواح ، ولكننا فى حياة البابا كيرلس رأينا الرجل الذى تنفذ روحه من جسده وهو حى مع صلتها بجسده تتشوف وتتحرك لتصنع خيرا فى الأماكن البعيدة . وأُناس من الأحياء كانوا يرونه فى بعض بلاد أوربا وبعض بلاد أمريكا وهو هنا فى مصر وكان حيا ، كانت روحه تتحرك وكان يتشوف .
هذه درجة لا يفهمها العاديون من الناس ، هذه مرحلة من مراحل الحياة الروحانية التى لا تتوافق للذين يأخذون المسيحية والدين ذلك المأخذ السطحى الكلامى ، لذلك كان صادقا حينما كان دائما يردد العبارة التى قالها الأب الموقر القمص ميخائيل داود (ملأتم الهواء كلاماً) هذا تعبير رهبانى ، ملأتم الهواء كلاماً ، كان يقوله بروح النقد ولكن المعنى وراء هذا عظيم . لم يكن هو ذلك الرجل الذى يملأ الهواء كلاما، كان قليل الكلام وإنما كانت كلماته القليلة علما ومعرفة وقيادة روحانية .
ثم نلاحظ أن البولس الذى قُريء علينا فى هذا اليوم الـ 30 من أمشير وهو مأخوذ من الأصحاح الثانى عشر والثالث عشر من الرسالة إلى العبرانيين . اسمعوا الكلمات ، يمكنكم أن تتبينوا المطابقة بين هذه الكمات التى تقرأ فى اليوم الذى فيه نذكر رحيله إلى العالم الآخر . ” ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة ، اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله ، انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم ” انظروا إلى نهاية سيرتهم .
وهذه هى النهاية التى نحتفل بها ، أية نهاية مجيدة ؟ ” لتمت نفسى موت الأبرار ولتكن آخرتى كآخرتهم ” ، هذه هى النهاية المجيدة لهذا الرجل . والرسول يكلمنا والبابا كيرلس يكلمنا اذكروا مرشديكم ، كان مرشداً ، ولم يكن إرشاده عادياً ، ليس كلاما إنما رؤية وواقع حى ، إرشاد فى الصميم لأنه إرشاد مبنى على رؤية عيانية ، رؤية حقيقية ، الدين بالنسبة له لم يكن صناعة ولا كلاما ، كان دينه حياة بكل معنى كلمة الحياة ، امتزج الدين بحياته فصار طبيعة واحدة معه لذلك عيناه كانتا تشعان روحانية ، جسمه كان ممغنطا روحانيا وكان يمغنط الذين فى مجاله . كان جسمه كهرباء روحية وكان يكهرب بهذه الروحانية الذين يقعون فى مجاله .
إن هذا الرجل كما قلت سابقا وأقول الآن أيضا أن تلاميذه الثلاثة، واحد بعد الآخر الأنبا مينا والراهب القمص روفائيل والراهب متياس هؤلاء الثلاثه تلاميذه ترهبوا . وشكرا لله ، الله يعينهم فى طريق الكمال لأن رهبنتهم رهبنة روحية . من أين أخذوا هذا ؟ لو لم يجدوا الرجل الذى حياته مطابقة للمفاهيم الروحية الرهبانية ، هناك مطابقة لذلك ساروا على نهجه ، الله يقويهم ويحفظ حياتهم الثلاثة جميعا لأنهم قمم ، ربنا يقويهم . لكن هذا يدل على أثر الرجل على المحيطين به وعلى أنه كان صادقا فى دينه ، لأنه شبع من الدين ودخل الدين فى أعماقه ودخلت الروحانية فى داخله .
لا ننسى حياة الرجل فى الدير وفى المغارة وفى الطاحونة وفى كل مكان ، لا يعرف إلاّ أن يصلى ، فى كل تجربة ، لا يعرف إلاّ أن يصلى ، لأنه كان يؤمن أنه ليس له ما يعتمد عليه ، لا ذكاء ولا فهم ولا علم ، لم يكن له ما يعتمد عليه إلاّ على الله .
لذلك كان البابا كيرلس يترجم ويجسد ما قاله الكتاب المقدس ” أما أنا فصلاة ” أما أنا فصلاة ، كله أصبح صلاة ، إذا تكلم فكلامه صلاة ، إذا نظر فنظراته صلاة ، إذا وقع فى أزمة ففى الأزمة يصلى ، وكل الأزمات مع الزمن تحولت وتحولت إلى الخير ، ومع ذلك بقى الرجل فى تواضعه لأنه حقيقة يعلم أن الذى كان يخلصه هو الله . وأن الذى كان يمجده هو الله ، وأن الذى كان يحول له الشر إلى خير هو الله ، لذلك كان حقيقة رجل دين ، حقيقة رجل دين ، الدين فيه ، ومن يراه يرى الدين ، لم يكن هناك إنفصال بين رجوليته أو إنسانيته وبين الدين، الذى هو يمثله . هذا الانطباق بين الرجل وبين الدين يمثله البابا كيرلس خير تمثيل . من رآه فقد رأى الدين ، ولا يجد فاصلا ولا فارقا ، البعيدون كالقريبين بل القريبون أكثر هم الذين يلمسونه ويعرفون حقيقته الروحانية .
لذلك حينما يقول الرسول فى هذا اليوم ” اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله ، انظروا إلى نهاية سيرتهم ” ، ليس إلى سيرتهم بل إلى النهاية .
لأنه كما قال الرسول بولس ” هناك أُناس كنت أذكرهم بفرح والآن صاروا أعداء صليب المسيح ” . يمكن للإنسان أن يبدأ حسنا ولكن ممكن بعد ذلك أن يعثر . أما الذى يصمد الى إلنهاية فهذا يخلص ، هذا الرجل وصل إلى النهاية ، عبر إلى الميناء وعبر عبورا جديدا . لذلك حينما يقول الكتاب اليوم انظروا إلى نهاية سيرتهم . أمامنا الرجل الذى انتهت حياته بمجد وكرامة ، انتهت حياته والذين يقدّرونه اليوم بعد حياته أكثر من الذين كانوا يقدّرونه فى حياته . وهذا دليل جديد ودليل عظيم ، على أن روحانية الرجل لم تكن روحانية عادية لأنها فى كل يوم تكتشف وفى كل يوم يظهر مجده وفى كل يوم يلمس الناس دلائل جديدة بعد غياب الرجل إلى العالم الآخر . وإن كنا لا نؤمن أنه فقط فى العالم الآخر ، أنا أؤمن تماما أن البابا كيرلس حى فى عالمنا وأنه يتحرك وأنه ينفذ وأنه يعمل إلى اليوم . لست أقول هذا الكلام مبالغة، أؤمن به تماما أن الرجل حى وحى لا بالمعنى العام للكلمة ، إنما البابا كيرلس حى حقيقة وأنه يتكلم وأنه يتصرف وأنه يتمشى بين الشعب وبين الناس وأنه يحل مشاكل وأنه يدفع عن الكنيسة شرورا بصلواته ودعواته ، وكثيرون يرونه الآن فى أحلامهم وفى رؤاهم ، يرونه يصلى ويرونه يدافع ويرونه يعمل من أجل الكنيسة وسلامها .
ثم اسمعوا الكاثوليكون ماذا يقول فى هذا الصباح الذى نحتفل فيه بانتقاله ، من رسالة القديس بطرس الرسول الأولى والأصحاح الرابع اسمعوا الرسول يقول: ” إنما نهاية كل شيء قد اقتربت فتعقلوا واصحوا للصلوات . وقبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا ” .
البابا كيرلس كأب لنا كأنه من خلال كلمات الكاثوليكون يكلمنا كأبناء له ، نهاية كل شيء قد اقتربت ، نعم ، فتعقلوا ، تعقلوا ، تعقلوا ، تصرفوا بعقل ، اصحوا لأنفسكم ، تنبهوا ، اصحوا للصلوات .
يقينا أيها الأخوة والأبناء نحن فى الأيام الأخيرة ، ظروف كثيرة أنتم تقرأون عنها وتلمسونها بعيونكم ، اضطرابات فى كل بقعة فى الأرض ، غليان فى كل مكان ، حروب فى كل مكان ، كلها تنذر بحرب عالمية كبيرة يمكن أن تنفجر فى أى وقت ، تعقلوا واصحوا للصلوات . البابا كيرلس يكلمنا من خلال الكاثوليكون فى هذا الصباح ، هذا هو التعقل ، لا ينشغل الإنسان بمظاهر الدنيا ، يرتفع فوقها إلى السمائيات إلى الروحانيات ، العقل رباط ، العقل رباط ، فتعقلوا ، اربطوا أنفسكم بهذا الرباط ، رباط المبادىء ، رباط القيم الروحية .
اسمعوا أيها الأخوة والأبناء نحن نحضر هنا كل عام ونسمع هذه القصص الجميلة ، وهذه القصص المؤثرة التى تدل على حياة الرجل لكن كل واحد فينا مطالب بأن يكون هو البابا كيرلس ، أن يقتدى بالبابا كيرلس لأن هذا هو الهدف من إجتماعنا ومن إحتفالنا به ، ليس تكريما للرجل لأن الرجل أكرمه الرب ، إنما سيرته منها نتعلم ، نتعلم كيف أننا فى كل مواقفنا نصلى لتنصرنا ، ولتسندنا نعمة الله ، ظهورنا لابد أن تكون مسنودة إلى قوة أعلى من قوتنا ، هناك حروب ، حروب الشيطان وحروب الجسد وحروب من الناس ومضايقات . فى حياة كل إنسان ضيقات مختلفة ، فلا تمشِ منفردا ولاتكتفى بنفسك وعلى فهمك لا تعتمد .
إنما كما كان البابا كيرلس لا يعتمد على فهمه ، إنما فى كل أمر يلجأ بالصلاة إلى الله وهذا هو الذى صقله وهذبه وروحنه فتحول إلى روحانى وكأنه ليس له جسد ، عاش حياة الصلاة والصوم ونحن فى فترة الصوم الكبير العظيم المقدس الذى يهنئ الأقباط بعضهم بعضا كما درجوا كلما أتى الصوم الكبير ، لأنهم يعلمون أن الروحانيين يتحدثون عن النعيم الروحانى الذى يحصلون عليه ويعيشون فيه إذا صاموا صوما حقيقيا ، صوما كاملا بالروح والجسد وبالعقل وبالذهن وبالنفس وبالحواس . وبكل أعضاء الإنسان الباطنية والظاهرة .
أيها الأخوة والأبناء هذه فرصتنا أننا اليوم تعلمنا من البابا ، لم يعلمكم أحد ، ليس واحد من الذين تكلموا ، تكلم بشيء غريب أو شيء جديد ، إنما تحدثوا بالغنى الذى فى حياة هذا الرجل . من هذا الغنى نغترف ، وهو غنى الله الذى كان فيه والعامل فيه والذى لا يزال يعمل فيه .
أيها الأخوة والأبناء مرة أخرى أقول نحن جئنا لكى نتعلم من الرجل ، ولكى يكون كل واحد منا البابا كيرلس فى حياته مقتديا بروحانيته ، يحفظكم الرب لكل عام ويعيننا جميعا بصلواته وأدعيته، ويعيد عليكم الأيام بسلام ولإلهنا الإكرام والمجد إلى الأبد آمين .