البابا كيرلس نموذجا وأمثولة

الموقع الرسمى للمتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى
Anba Gregorios, Bishop of Scientific Research Website

اليوم هو الأحد الأول من الصوم الكبير وبه تبدأ الأربعون المقدسة على وجه الدقة ، وتنتهى الأربعون المقدسة فى يوم الجمعة المعروف بجمعة ختام الصوم .

فى الأحد الماضى المعروف بأحد الرفاع قُرئ علينا الفصل المأخوذ من الأصحاح السادس من إنجيل معلمنا متى وفيه يتكلم المسيح له المجد عن أركان العبادة وهى الرحمة ثم الصلاة ثم الصوم ، وأما الفصل الذى اختارته الكنيسة ليتلى فى الأحد الأول من الصوم الكبير، فهو إبتداءً من العدد التاسع عشر من نفس الأصحاح السادس ، إلى العدد الثالث والثلاثين . وفيه يتحدث المسيح له المجد عن غاية العبادة ، غاية العبادة أنها متجهة إلى الله وإلى الله وحده ، والإنسان السائر فى طريق السماء يزهد فيما عدا ذلك ، فيتكلم المسيح له المجد عن الكنز السمائى الذى يمكن للإنسان أن يكنزه وهو على الأرض .لأن هذه المدخرات يدخرها فى السماء وتنتظره هناك حينما ينتهى من رحلة هذه الحياة الدنيا ويذهب إلى العالم الأبقى . بهذه الكنوز التى كنزها على الأرض ، لا من فضة ولا من ذهب، ولكن من أعمال الرحمة بالفقراء وأصحاب الحاجات ، ومن العبادات من الصوم والصلاة التى تتجه إلى الله وإلى الله وحده . بهذا يكنز الإنسان له كنزا فى السماء لايصل إليه سوس ولاصدأ ، وإنما كنز يدخر فى السماء ينتظره هناك بعد أن ينتهى من رحلته على الأرض . بهذه الكنوز يبنى الإنسان بيته الأبدى .

فلا  دار  للمرء  بعد  الموت  يقطنها                   إلاّ  التى  هو  قبل  الموت  بانيها .

إن فنى إنساننا الداخل ، لنا فى السموات بيت غير مصنوع بيد أبدى، هذا البيت يبنيه الإنسان بما يصنعه على الأرض ومايرسله إلى فوق ، فإذا ماخرج من هذه الحياة وجد أنه هناك قد صنع له أصدقاء بالمال الذى لا حق له فيه. فإذا كنا نحن وكلاء مؤتمنين على أموالنا ، وإذا كنا مؤتمنين على الوزنات التى أعطانا الله إياها ، فهذا الذى نرفعه يسبقنا إلى هناك وبه نصنع لنا صداقات وهؤلاء الأصدقاء ينفعوننا هناك. ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم فى المظال الأبـدية ” (لوقا 16: 9) .

وهنا سؤال يطرحه الإنسان أمام نفسه ، ماذا صنعت فى حياتى من خير ومن صلاح ومن بر ومن تقوى ؟ ماذا صنعت  .. لحياة آتية حتى إذا فنيت هنا وانتهت حياتى على الأرض ، أجد هناك ما أرسلته وما بنيت به بيتاً أبدياً ، هو سؤال لا يوجد سؤال آخر أهم منه ، لابد أن يطرحه الإنسان على نفسه الآن ، ماذا صنعت فى حياتى الماضية ؟ ماذا ربحت ؟ كيف تاجرت ؟ وماذا كسبت من وراء تجارتى ؟ المواهب والعطايا ، الوزنات سواء أكان هو المال أو كانت الإمكانات والإمكانيات ، سواء أكانت المواهب والعطايا العقلية أو الروحية أو النفسية أو الذهنية أو المادية أو البدنية ، كل هذه المواهب التى أعطانى الله إياها ماذا صنعت بها ؟ هل طمرتها فى الأرض ، هل طمرت فضة سيدى ، أم أننى استعملتها وثقّلتها وربحت من ورائها لا للمادة ولا للفناء، لا للأرض وإنما كسبت بها، كسبت بها أرواحا ، كسبت بها أشخاصا للملكوت ، وكسبت بها أيضا كنزا مدخرا ينتظرنى هناك . سؤال لابد أن نطرحه على أنفسنا وهنا يختم المسيح له المجد بالعبارة القائلة ” اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذا كله ( من طعام وشراب ولباس وما إليها من شئون المادة ) تزاد لكم ” ، انظروا إلى طيور السماء ، انظروا إلى العصافير وإلى الغربان ، إنها لا تجمع إلى مخازن ومع ذلك لا تموت جوعى. إذن لا تهتموا بما تأكلون ولا تهتموا بما تشربون ولا تهتموا بما تلبسون هذه كلها يطلبها الذين لا إله لهم ، الذين لا يعرفون فضل الله على هذا الكون . أما أنتم إذا كنتم حقا عابدين لله وتعرفون طريق السماء ، اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وأما هذا كله فيزاد لكم جميعكم .

ونحن اليوم قد أتينا من أماكن متفرقة لنحتفل بالذكرى العاشرة للمتنيح البابا كيرلس السادس ، هذا الرجل الذى أعطى نفسه أن يكون نموذجا وأمثولة لحياة الإنسان الذى يحيا لا للأرض وإنما للسماء . رجل وهب كل حياته بكل ما فى هذه الكلمة من معنى ، لم يبق لنفسه شيئا ، ولم يبق لأحد شيئا ، إنما كله قربان وكله بخور طاهر عطر، عَطَّرَ الأرض بسيرته النقية الطاهرة وصلواته النافعة المقبولة، وعطَّر أجواء السماء أيضا ودخل إلى الأخدار السمائية هناك عابدا طاهرا نقيا جميلا مُجملا بالفضائل . نحن الذين اجتمعنا فى هذه المناسبة نريد أن نراجع ذواتنا ونريد أن نتخذ من حياة هذا الرجل نموذجا لحياتنا ، لنعرف كيف تكون الحياة الطاهرة ؟ كيف تكون الحياة المحرقة ، كيف تكون الذبيحة ، ذبيحة الروح والنفس والجسد ، كيف تكون السيرة ، سيرة السائرين فى طريق السماء الذين لا يألون على شيء على الأرض ولا يبتغون شيئا من الدنيا ولا يريدون أن يكنزوا على الأرض كنوزا ، حيث يعيش السوس والصدأ، وإنما إنسان ينظر للحياة نظرة أبدية . لا يتعلق بأمر من أمور الحياة الدنيا إنما كل فكره وكل قلبه ، كل إحساسه وشعوره ، كل عواطفه متجهة نحو السماء .

إنه عاش حياته كلها وكان هدفه أن يرسل إلى هناك ، لايجمع على الأرض شيئا يفنى ويزول ، إنما يجمع بإرسال صلواته وإرسال محرقة قلبه وإرساله سيرته وإرسال كل ما ملكت يداه، وكل ما وضع الرب بين يديه من خير ومن بركة ، كلها صعدت محرقة وقدمت ذبيحة أمام الله .

أيها الأخوة والأبناء هذه هى سيرة السائرين فى طريق السماء سيرة الذين يعيشون على الأرض وكأنهم ليسوا على الأرض . هذه سيرة السمائيين على الأرض أو سيرة الأرضيين السمائيين . سيرة الملائكة الأرضيين أو سيرة الأرضيين من الملائكة . هذه هى سيرة الذين تحتاج الأرض أن يعيش هذا الطراز من الناس عليها ، ومن دون هؤلاء تصير الأرض نجسة وتصير الأرض حربا وشرا وقتالا ونزاعا وتكالبا على شئون المادة وعلى شئون الجسد . أما الذين طرحوا هذه الأمور ولم تكن لهم تعلقات بها ، هؤلاء الذين اتجهوا بقلوبهم إلى السماء بهم تتبارك الأرض ، وتصير الأرض خيرا وتصير الأرض سلاما .

قال المسيح له المجد طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض . ما معنى أنهم يرثون الأرض ؟ معناها أنهم ملكوا بفضائلهم مشاعر الناس، وبهذه المشاعر التى كسبوها أمكنهم أن تخلّد أسماؤهم على أفواه الناس جميعا . وماذا يبتغى الإنسان من حياته على الأرض ؟! الأغنياء الذين سبقوا ملكوا ولكن إذا كانوا أشرارا انتهت حياتهم وسيرتهم وأسماؤهم بعد حياتهم ، وبدلا من أن يباركهم الناس صاروا يلعنونهم فلا يذكرون أسماءهم إلا ويلعنونهم ، وفيما عدا ذلك تموت أسماؤهم . من الذين بقيت أسماؤهم خالدة ؟ من الذين بقيت أسماؤهم على أفواه الناس باستمرار، هؤلاء هم الذين أنكروا شهوات الجسد وطرحوا المادة تحت أقدامهم واتجهوا إلى السماء ، الذين اختاروا الفقر طوعا ونذروا حياتهم للتعبد ، الذين عملوا الصالحات تركوا من ورائهم آثارا ، هذه الآثار هى التى تُخلّد ذكراهم والتى تخلّد أسماءهم وهؤلاء هم الذين ورثوا الأرض على الحقيقة .

طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض ، راجعوا تاريخنا ، راجعوا تاريخ البشرية كلها ، من هم الذين خلدت أسماؤهم على التاريخ ؟ هؤلاء الذين استطاعوا أن يصنعوا شيئا لمواطنيهم وللشعوب وللآخرين، إما قدوة صالحة تركوها ، أو عملا مباركا استطاعوا به أن يخففوا بلوى البشرية وأن يحققوا خيرا للإنسانية . هؤلاء هم الذين ورثوا الأرض بمعنى أن أسماءهم خُلّدت ، وأصبحوا ليسوا أمواتا وإنما أحياء على الحقيقة على أحسن ماتكون الحياة.

هذه السيرة العطرة التى للبابا كيرلس السادس هى التى خلّدت اسمه.

أيها الأخوة والأبناء فقد أصبح البابا كيرلس ظاهرة فى جيلنا ، كثيرون سبقوه ولكن البابا كيرلس بالنسبة لجيلنا ولأجيال سابقة يعيش إلى اليوم فى ذاكرة شعبنا ، ولا أقول شعبنا هنا وإنما أقول أن سيرته أيضا خرجت خارج مصر فاسم البابا كيرلس مقترن بالفضيلة، مقترن بالعبادة ، مقترن بالقداسة ، مقترن بالآثار الطيبة الروحانية ، التى استطاع بسيرته وبنموذج حياته أن يلهب بها قلوب الشباب ، قلوب الرجال وقلوب النساء ، وأصبحت الكنيسة ناهضة روحيا بفضل الأيام المباركة والسنوات التى عاشها ، عابدا مصليا .

إن البابا كيرلس لم يكن واعظا ولم يكن من أرباب الكلام ، ما أقل كلماته وما أقل ما لفظ من ألفاظ تكاد أن تكون معدودة ، ولكن الذين سمعوه يتكلم هذه الكلمات القليلة ، كان كل حرف منها له معنى وله مغزى ، وكان يحمل رسالة شخصية لصاحبه ، ونحن لانستطيع أن نحصى اليوم وبعد حياته على الأرض عدد الذين انتفعوا بسيرة البابا كيرلس . وبحياته وبصلواته ، أعداد عديدة غفيرة ، كم من أُناس غيروا حياتهم وسلكوا مسالك التقوى واتجهوا إلى السماء بقلوبهم ، لا بمواعظه فلم يكن الرجل واعظا من هذا الطراز ، وإنما كان البابا كيرلس ظاهرة لجيلنا وما قبل جيلنا وسيظل البابا كيرلس ظاهرة يمتد أثرها إلى أجيال آتية، ويكفى أنه الرجل الذى فى ذاكرة الجميع ، إنه على الرغم من مرور عشر سنوات على حياته ، لكن فى هذا اليوم من كل سنة يُحتفل بذكراه ، والشعب من قاصيه ودانيه يحضر سواء هنا أو فى كنيسته فى مصر القديمة بحشود كثيرة، على الرغم من أن الرجل غير موجود بالعين ، وحتى إخوته أيضا قد رحلوا معه إلى العالم الآخر ومع ذلك لماذا هذا الشعب كله يُقبل على هذه الذكرى ويتبارك بها ولاينساها ، بل أقول ربما أن يكون عدد الذين يحضرون الآن  هذه الذكرى أكثر من الذين كانوا يحضرون فى حياته عيد تتويجه . هذا كله معناه أن الرجل فعلا أصبح له أثر عميق فى نفوسنا .

ويكفى البابا كيرلس فخراً أن تلاميذه الثلاثة الذين تتلمذوا عليه وأخذوا منه واحدا بعد الآخر ، دخلوا سلك الرهبنة إقتداءً بحياته ، هذه مفخرة للرجل تٌذكر له وستظل تُذكر له ، أنه قد استطاع بروحانيته العميقة أن يحفر فى قلوب الذين عرفوه آثاراً لا تمحى مع الأيام .

رحمة لهذه الروح الطاهرة التى نذكرها ونترحم عليها ، ونذكرها دائما لننتفع بسيرتها العطرة وننتفع بصلواتها وبركاتها .

لازال البابا كيرلس حيا ، ربما فى ذاكرة الكثيرين أنه قام من بين الأموات ، وأنا أعرف فى مصر وفى خارج مصر أن البابا كيرلس يظهر لأعداد عديدة يحل مشاكل ، ويخلص أناسا من مآزق ، ويشفى أمراضا ، وأيضا ببركاته وصلواته وُلد كثيرون لأمهات عواقر وأُناس كانوا محرومين من نعمة الأطفال ، نالوا ببركة الرجل فى حياته وبعد حياته نسلا مباركا ، ولذلك كثر عدد الذين يسمونهم مينا أو كيرلس ، لأن هؤلاء الذين أعطاهم الرب كرامة لصلوات الرجل القديس .

 إن البابا كيرلس لم يمت ، إنه حى ليس فقط بالمعنى العام لكلمة الحياة ، فإن جميع الراقدين أحياء كما قال المسيح ” الجميع عنده أحياء”  ولكن البابا كيرلس حى بمعنى خاص ، إن البابا كيرلس إلى الآن يتمشى بين شعبه ظاهرا أو خفيا ، يبارك ويحل المشاكل ويخلص من ضيقات، يعمل بنشاط أكثر مما كان يعمل أثناء ما كان حيا ، لأنه كان يعوقه الجسد وضعفات الجسد عن العمل .

أما الآن ففى أربع وعشرين ساعة ، كل ساعات اليوم عمل ونشاط، وعبادة ، وكثيرون يرونه يصلى القداس ، يصلى القداس الآن بطريقة متواصلة ، ويقول ما هو عملى إلاّ أن أواصل العبادة وأن أنتقل بين إنسان وآخر، أعالج متاعبه وأعالج ضيقاته . حتى غير المسيحيين يَرّوُون لنا إلى الآن قصصا ومواقف متواصلة غريبة جداً ، إننا نرى أثره فى حياة غير المسيحيين .

فقد كنت ألتقى بعدد من الأشخاص المسئولين فى مختلف المراتب يتحدثون عن الرجل وعن بركاته وعن أثره فى حياتهم ، هذا الأثر الذى لم يضع بموته وإنما يتجدد أكثر مما كان فى حياته .

بركة صلواته وشفاعاته المقبولة أمام إلهنا تشملنا جميعا ، وتشمل هذا الدير، وتشمل الشعب القبطى فى أزماته المختلفة وفى ضيقاته وآلامه وأوجاعه وأحزانه .

البابا كيرلس يظهر لكثيرين الآن ويقول : أنا أصلى وأصلى وسأصلى احتملوا فإن الصلوات لابد أن يكون لها فاعلياتها فى خلاص النفوس جميعا .