سياسة البابا كيرلس الحب

الموقع الرسمى للمتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى
Anba Gregorios, Bishop of Scientific Research Website

الحقيقة إشفاقا عليكم من أن تنتظروا أكثر مما انتظرتم ، سأحاول بقدر الإمكان أن أوجز كلمة ، وهى فى الواقع إمتداد لما قاله الأب الموقر القمص ميخائيل داود .

سياسة الرجل سياسة الحب ، سياسة القلب المتسع ، سياسة الأبوة لجميع الناس ، وهذه السياسة أحسها الكل بطريقة عملية ، لا بالكلام ولا باللسان إنما القلوب التقطت محبته فأحس بها الناس فى أعماقهم من دون أن يتكلم الرجل .

ليس المسئولون فقط من رجال الدولة الذين أحبوه واحترموه وأحسوا أنه رجل الله . رجل الله ، أقول رجل الله ، أحسوا أنه ليس مجرد رئيس الكنيسة المسيحية ، إنما رجل الله . وكانوا يلقبونه بالواصل ، واصل يعنى موصول الصلة بخالق الكون وسيد الطبيعة، ومن هنا نظروا إليه على أنه الرجل ، رجل الله على الأرض ، هذا التعبير ردده الكثيرون من المسئولين وغير المسئولين ، وحقيقة حتى رجال الأزهر كانوا يذهبون إلى البطريركية ، وأحسوا بصداقته وأحسوا أنه أخ وأب ورجل الله ، الذى يجمع إلى صدره أبناء الله المتفرقين إلى واحد . بل ماذا أقول أيضا ؟ أن مطران الروم الكاثوليك وهو الآن فى بعلبك فى بيروت لبنان ، حينما كان فى مصر كان يقول هذا الرجل بابا الشرق ، بابا الشرق نعم ، كلمة بابا بالمعنى الدقيق للكلمة تشير إلى الأبوة ، هذه الكلمة التى يرددها الابن حينما يكلم أباه ويقول بابا ..

البابا كيرلس عمليا لا بالكلام ولا باللسان أشعر الكل أنه أب ، وأنه أبو الكل ويجمع فى صدره أبناء الله المتفرقين .

 بطريرك الروم الأرثوذكس وكان مريضا يزحف على رجليه، فتألم البابا لأنه جاء إلى عنده وقال أنا أذهب إليك ، أجاب لا .. أنا آتى أزحف على قدمى لأتناول البركة منك .

ماذا نريد أكثر من هذا ؟ الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك بل وأيضا البروتستانت . كنت أرى الدكتور إبراهيم سعيد يذهب إليه ويجلس أمامه كابن لا كرئيس الطوائف الإنجيلية ، ماذا أقول ؟ حينما زار المنيا ، رجل كبير ومركزه الاجتماعى كبير من إخوتنا المسلمين ، طلب أن يدخل إلى بيته ، فلما دخل إليه نحر عجلين ، فاستكلف البابا ، فقال له أتستكلف ؟ وحلف بالعظيم لو أباح الشرع لذبحت ابنى . المهم هذا التعبير نفسه صادر من القلب . كيف تكون هناك بعد ذلك مشكلة بسبب الدين ، أبدا أبدا هذا الحب الذى لمسه الكل بالقلب والشعور عمليا، لا بالكلام ولا باللسان حل المشاكل وأزال الصعوبات وحطم الحواجز ، يشعر أن الله أبونا جميعا ، وأن هذا الرجل من الله وهو عمليا يجسد الحب الإلهى .

ولكن البابا كيرلس أيضا فى سياسته الداخلية نحو الأساقفة ، سياسة الأب والأخ بل وسياسته نحو الكهنة جميعا ، أب وأخ ، لم يفرز نفسه أبدا ، بل عمليا أحس الكل أنه أب لهم ، لم يقسُ على أحد ، لم يصدر قرارا مؤلما على أحد ، وإنما بالحب عاش وبالحب ضم الجميع إلى صدره . وهكذا نحو الشعب أيضا ما من واحد من بين المؤمنين مسيحيين أو غير مسيحيين أقبل إليه إلا ووجد عنده مشاعر الأب ، وكان يتقدم لخدمته أحيانا من تلقاء نفسه ، ومن دون النظر إلى سؤال أو طلب لأنه كان مكشوف العينين ، أقول مكشوف العينين .. نعم ، كانت له رؤيا ، كان يرى وهذه إحدى مواهبه .

فالبابا كيرلس من خلال حياة الرهبنة الصادقة ، وصل إلى أعلى مراتب الرهبنة ، وصل إلى السياحة ، لم يتكلم ولكنه كان فعلا وإلى اليوم بل اليوم أكثر إمكانية يتنقل فى كل العالم ، وفى كل البلاد ، ويعين ويساعد فى انجلترا وفرنسا والنمسا وألمانيا واستراليا والسعودية والكويت وكل بلاد العالم للأقباط وغير الأقباط ، أبوة ، أبوة ومحبة ، التجسيد لمحبة الله رأيناها فى هذا الرجل .

والبابا كيرلس لم يمت ، إنما أقول أنه حى اليوم لأنه فعلا يتحرك ويجيب ، ماذا أقول ؟ .. حتى المشاكل الصغيرة . كانت فى زيارتى سيدة من سيدات الأقباط وهى إمرأة متقدمة فى السن ، لها ابنة تزوجت وهى إبنة طيبة ، ولكن حدث لسبب من الأسباب أن هذه الابنة بعدت عن أمها ولم تعد تذهب إليها ، ربما نوع من القطيعة لسبب ما ، ولكن هذه الأم بعد مدة من الزمن مشتاقة أن ترى ابنتها ، هى التى قالت لى أنها طلبت من البابا كيرلس أن ترى ابنتها ، فظهر لها وقال لها ” بكره ستحضر لك “، كانت فى بلدة بعيدة ، وحدثت ظروف مختلفة وحدث أن الابنة فى اليوم التالى ذهبت لأمها بطريقة غير عادية لم تكن متوقعة .

 أقول حتى فى هذه الأمور الصغيرة ، حتى فى هذه الخلافات الصغيرة التى قد تنشأ بين الواحد والآخر ، رجل سريع الاستجابة ، وسريع الندهة .

 بل بانتقاله إلى العالم الآخر صارت له قدرات أكثر وإمكانات أكثر ليتحرك ، وليست هناك مشكلة مواصلات .. ماذا أقول ؟ كل يوم نسمع ونلتقى بإنسان ويتحدث عن شىء جديد ، هذه الأمور لو سُجلت تملأ كتبا من أُناس مختلفين مسيحيين وغير مسيحيين .

ومن هنا أبوة الرجل ، الأبوة ، بابا ، بابا فعلا ، الكل يناديه بابا.. ومن أبوته على الرغم مما وصل إليه البابا كيرلس من مقامات روحانية عالية إنما كان يشعر بضآلته ، شىء غريب ، كان تواضعه تواضع حقيقياً من القلب ، كان يشعر أنه ليس له كفاءة ، لذلك على الرغم مما كان عليه تجده دائما يُبَيّن أنه صغير ، وهذه الصغارة أو التواضع الذى فى قلبه كان يدفعه إلى أن يقدم غيره .

على سبيل المثال لا على سبيل الحصر أقول : البابا كيرلس على الرغم من أنه كان يصلى القداس يوميا ، إنما دائما كان فى رسامات الكهنة يكلف المطارنة الآخرين ، فى أول حياته كان يُكلّف المطران الأنبا أثناسيوس الكبير . على الرغم من أنه كان فى كل يوم يصلى القداس ، لكن كان يكلف المطران الأنبا أثناسيوس ، ومن بعد الأنبا اثناسيوس كان يكلف غير الأنبا اثناسيوس من المطارنة الآخرين . هذا من منطلق إحساسه بضآلته . ومن منطلق تواضعه الحقيقى ، الأمر الذى كان يدعوه إلى أن يشرك غيره من المطارنة والأساقفة .

وكان إنسانا يقبل النصيحة ولا يرفضها ، بل ماذا أقول أيضا ؟ كان فى أمور كثيرة يستشير ، شاعرا أنه يحتاج أن يأخذ المعرفة من غيره . لم يكن مقامه العالى الروحانى يشعره بأنه فى غنى عن مشورة يأخذها من غيره ، ما أكثر المواقف التى فيها كان يرسل ويستشير ويحول أى موضوع من الموضوعات على غيره . ليس فقط من منطلق المشاركة ولكن من منطلق الإحساس والتواضع الحقيقى بأنه صغير، وأنه فى حاجة إلى غيره وبهذا وصّل العلاقات ولم يقطع الصلات بينه وبين الآخرين من المطارنة والكهنة وغير أولئك .

لا أستطيع أن أحصى، وربما يكون من الظلم لهذا الرجل أننا نقصر فى إحصاء المواقف المختلفة ، التى فيها نرى البابا كيرلس يستشير غيره ممن هم دونه ، وأيضا يستعين بالآخرين ، على الرغم من أنه قادر أن يعمل ، وكل هذا دليلاً على التواضع الحقيقى لا تواضع الكلام، إحساسه بأن مواهبه قليلة على الرغم من سموها ، وأن غيره عنده ماهو أفضل منه . هذه مسألة نادرة ولكننا لمسناها .

البابا كيرلس كان دائما يستعين بالإكليريكية ، كان دائما يستشير من فى الإكليريكية ، ويسأل بصورة ربما يُظن أنها لا تليق بالبابا وهو الرأس أن يستشير غيره . من أجل هذا أقول بملء فمى أن الرجل كان متواضعا على الحقيقة ، وهذا يرفعه أمام الله لأنه لم يقع فى الغرور ولا أحس بأنه يملك كل شىء ، أبدا أبدا أبدا . حقيقة فى جميع المواقف ليس هو موقف واحد ، إنما جميع المواقف ساعة بساعة ويوماً بيوم ودقيقة بدقيقة ، الرجل يمد يده إلى غيره ويستعين بغيره ويطلب معونة غيره  عن إيمان بأن غيره أفضل منه وأن عند غيره من العلم مايفوقه . هذا شىء جميل . لا أريد أن أطيل أكثر من هذا ولكن أقول أنه بهذا علمنا .

كان معلما عمليا لا بالكلام ولا باللسان ، كيف يكون الرجل الروحانى فاهما نفسه ومتواضعا على الحقيقة ، وكيف يضم غيره إليه  بالتعاون مع غيره ، وبإحالة الأمور إلى غيره حتى لا يكون وحده ، وإنما يكون معه آخرون .

ولذلك بملء المحبة عاش ، جميع الأساقفة وجميع الكهنة ، كان شعوره نحو الجميع شعور الأب والأخ  .

إليك ياأيها البابا ، إليك أيها البابا نرفع التحية ، نذكرك ولن ننساك ، ومن الخيانة أن ننساك ، ومنك تعلمنا ومنك نتعلم وأنت حى، حى بكل معنى الكلمة من حياة ، وتنتقل بأبوة كاملة ومحبة كاملة للجميع، مسيحيين وغير مسيحيين .

إن خدماتك للكنيسة ، خدماتك للمسيحية ، خدماتك لمصر لا يعبر عنها ، يوم أن انتقل البابا ، يوم أن رقد ، يوم أن رحل وسافر ، يوم أن خرج من الجسد ، حيَّاه كل المسئولين فى الدولة ، لا تحية رسمية ، إنما تحية فيها عاطفة وتقدير وإيمان بأن الرجل فعلا له شعور الأب وشعور الأخ ، وجمع الكل إلى صدره بأبوة كبيرة .

هذه خدمة لا تقدر ولا تثمن بثمن ، نحن حصدنا هذا الحصاد ، وشكرا لله أننا رأينا البابا كيرلس ، شكرا لله أن جيلنا تمتع بالبابا كيرلس، وفيه رأينا المسيح ، ورأينا التعليم المسيحى ، ورأينا الأبوة، فحقا كنت ولازلت وإلى الأبد أنت البابا .

نفعنا الله بصلواتك وبركاتك ، نحن فى حاجة إليها ولإلهنا الإكرام والمجد إلى الأبد آمين .