الخدمة
هذا هو الجزء السابع والعشرين من موسوعة الأنبا غريغوريوس ، وقد سبقه ستة وعشرين جزءاًً، كان الجزء الأول فى اللاهوت المقارن ، والثانى فى اللاهوت الأدبى، والثالث فى الرهبنة، والرابع فى الدراسات الفلسفية ، والخامس فى اللاهوت الطقسى، والسادس فى لاهوت السيد المسيح ، والسابع فى سرّى التجسد والفداء ، والثامن فى الجزء الأول من أسرار الكنيسة السبعة ويشمل المعمودية والميرون والقربان والتوبة وسر مسحة المرضى، والتاسع فى الجزء الثانى من الأسرار ويشمل سرِّى الزيجة والكهنوت. والعاشر فى الكنيسة الأرثوذكسية وعقائدها، والحادى عشر فى الحياة بعد الموت والمجىء الثانى ، والثانى عشر فى الكتاب المقدس وطرق دراسته ، والثالث عشر مقالات فى الكتاب المقدس وإجابات على أسئلة، والرابع عشر فى تفسير إنجيلِّى متى ومرقس، والخامس عشر فى تفسير إنجيل القديس لوقا، والسادس عشر فى تفسير إنجيل القديس يوحنا، والسابع عشر تأملات وتعليقات على سفر أعمال الرسل وبعض رسائل القديس بولس الرسول، والثامن عشر عن الشهادة والإستشهاد وشخصيات كتاب مقدس وقديسون، والتاسع عشر عن الله والوجود والكون وطبيعة الملائكة. والعشرون عن العذراء مريم، حياتها ورموزها وألقابها، وفضائلها وتكريمها وظهورها ومعجزاتها. والحادى والعشرين فى اللاهوت الأدبى – الجزء الثانى- فى الوصايا العشر، من الوصية الثانية إلى الوصية الخامسة. والثانى والعشرين فى اللاهوت الأدبى –الجزء الثالث- فى الوصايا العشر من الوصية السادسة إلى الوصية العاشرة. والثالث والعشرين فى الأعياد المسيحية. والرابعوالعشرين هو الجزء الأول من الدراسات التاريخية عن الأديرة والمزارات – مصر وأحداث كنسية. والجزء الخامس والعشرين هو الجزء الثانى من
القديس يوسف النجار
خطيب العذراء مريم
فى اليوم السادس والعشرين من شهر أبيب القبطى (= 2 من أغسطس – آب) نذكر خبر رقاد القديس يوسف البار خادم سر التجسد الإلهى ، وإنتقاله إلى الأخدار السمائية فى السنة السادسة عشرة للتجسد والميلاد الإلهى . وتحتفل به الكنيسة الغربية والشرقية البيزنطية فى يوم آخر هو الأحد الأول بعد عيد الميلاد المجيد ، نظرا لما لهذا القديس من مكانة عالية فى الكنيسة المسيحية شرقا وغربا .
والمعروف عن هذا القديس أنه كان رجلا بارا وصدّيقا من قبل أن تختاره العناية الإلهية لمهمته الجليلة كخادم أمين لسر التجسد الإلهى ، إبتداء من عقد الكهنة عليه وعلى مريم ليكونا زوجين صالحين لحياة زوجية طاهرة ، إلى ماتلا ذلك من أحداث سعيدة وخدمة مجيدة ، هى خدمة الملائكة الحراس من طراز الكاروبيم والسيرافيم الواقفين دائما على خدمة الله وأمام حضرته الإلهية كل حين .
كان يوسف رجلا باراً
ولقد شهد الوحى الإلهى فى كلمات واضحة صريحة لبرارة القديس يوسف وقداسة سيرته :
1- من ذلك قوله عنه ” كان يوسف رجلها ( = رجل مريم ) بارا” (متى1: 19) . وهى شهادة ثمينة من الوحى الإلهى ، وما أعظمها من شهادة ! فإننا ” إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم ” (1. يوحنا5: 9) ” لأنه ليس من مدح نفسه هو المزكى بل من يمدحه الرب” (2. كورنثوس10: 18)، (رومية2: 29)، (1. كورنثوس4: 5).
2- ولابد أن (اختيار) يوسف ليكون زوجا لمريم ، قرينة واضحة على تقوى يوسف وطهارته وقداسته ، فإن (اختيار) الله لإنسان ليقوم بدور عظيم بينة على مايراه الله من صلاحية هذا الإنسان للقيام بدوره . وإذا كان المخرج لرواية ما يعيّن لكل شخص من أشخاص الرواية الدور الذى يناسبه والذى يعلم مسبقا بصلاحيته للقيام به ، فإن الله أولى بأن يختار لكل إنسان الدور الذى يعلم أنه يصلح له . هكذا قال المسيح له المجد عن شاول الذى هو بولس ” إن هذا لى (إناء مختار) ليحمل اسمى أمام أمم وملوك وبنى إسرائيل ” (أعمال9:15) ،(رومية1: 1)، (غلاطية1: 15) . كذلك اختار الله مريم لتحمل فى أحشائها (الله الكلمة) . وفى تعليل ذلك قال الملاك لها : ” لأنك قد نلت نعمة عند الله ” (لوقا 1: 30) . وقد ” نالت نعمة عند الله ” لأنها كانت “ممتلئة نعمة” (لوقا1: 28) . ومعنى أنها “ممتلئة نعمة” أنها بسبب تقواها وطهارتها وصدق عبادتها استسلمت طائعة لنعمة الله ، فانسكبت عليها النعمة بغزارة وشحنتها حتى ملأتها فصارت “ممتلئة نعمة ” . وعلى هذا النحو كان يوسف خطيب العذراء مريم رجلا صديقا وبارا وقديسا ، ولهذا استحق أن ينال من الله هذه الكرامة ، فتشرف بأن صار لمريم زوجا باختيار إلهى ، ثم دخل فى هذه الحلبة المقدسة ليسند الرب إليه دورا كبيرا ومهماً وخطيراً فى رواية التجسد والفداء والخلاص ، هو دور “الأب الاعتبارى ” للسيد المسيح (لوقا2: 41، 48)، (3: 23) ، (يوحنا1: 45) ، (6: 42).
ويروى لنا التاريخ والتواتر عن الآباء الكبار أنه عندما بلغت مريم الثانية عشرة من عمرها ، كان لابد لها لذلك أن تغادر الهيكل . ولما كانت مريم قد تيتمت من أحد أبويها عندما بلغت السادسة من عمرها ، وتيتمت من الآخر فى الثامنة من عمرها ، فقد وقع الكهنة فى حيرة من أمرها ، فأوحى الله إلى رئيس الكهنة فى حلم أن يجمع فى الهيكل عصى الشيوخ والشباب ، وأن يكتب على كل عصا إسم صاحبها ، وينتظر حتى يرى علامة من السماء . فحدث فى اليوم التالى لجمع العصى فى الهيكل أن رأى الكهنة وإذا بالعصا المكتوب عليها إسم يوسف النجار ابن يعقوب (متى 1: 16) قد أفرخت وأخرجت براعم ، فكانت بهذا شبيهة بعصا هرون التى ” قد أفرخت . أخرجت فروخا وأزهرت زهرا ، وأنضجت لوزا ” (العدد 17: 8) ، (العبرانيين9: 4) . وقد كانت هذه علامة سمائية على أن يوسف هو الرجل المختار من الله ليكون زوجا لمريم ( متى 1: 16) . فأخذ رئيس الكهنة بيد يوسف وبيد مريم وباركهما ببركة الزواج المقدس ، ومنذ ذلك الوقت أخذها يوسف إلى بيته فى الناصرة (لوقا1: 26) ، (2: 4، 39، 51) ، (4: 16) ، (متى2 :23) . وما كان ليوسف أن يأخذ مريم إلى بيته مالم يعقد الكهنة عليها عقداً رسميا وفقاً للشريعة (متى1: 18-25) .
3- ومن دلائل برارة يوسف أنه احترم رغبة مريم فى إحتفاظها ببكارتها وطهارتها وأن تبقى دائما بتولا . فعلى الرغم من عقد الزواج الرسمى الذى عقده الكهنة عليهما فى الهيكل ، لم يقرب يوسف مريم ولم يمسّها (متى1: 18) . ولابد أنها كاشفته برغبتها ، فاحترم رغبتها ووافقها عليها ، وظل هو أيضا محتفظا بطهارته وعفته ، فكان شريكا لمريم فى فضيلة العفة الدائمة . ولو لم يكن يوسف على مستوى مرتفع من الروحانية والتقوى لكان له عذره إذا تذمر وضجر وتبرم من هذا ( الزواج البتولى) ، لكن يوسف قبل راضيا أن يعيش مع مريم فى بيت واحد كما يعيش الأخ مع أخته دون أن يلمسها ملامسة الأزواج . هذه فضيلة يجب أن تذكر ليوسف ، ولا نهمل أن نشيد بذكره فيها .
4- فلما ظهر الملاك جبرائيل للقديسة مريم وبشرها بالحمل الإلهى وقبلت منه ذلك وقالت مذعنة لمشيئة الله ” ها أنا ذا أمة الرب ، فليكن لى بحسب قولك ، وانصرف الملاك من عندها ” (لوقا1: 38) وبدأت علامات الحمل تظهر على مريم ، كان ليوسف عذره فى أن يشك فى طهارة مريم . لأن مريم بعد أن تلقت البشارة ، وكانت قد سمعت من الملاك جبرائيل عن أليصابات أنها هى أيضا ” قد حبلت بابن فى شيخوختها .. قامت مريم وذهبت مسرعة إلى مدينة على الجبال من مدن يهوذا ” (لوقا1: 39) ، والمعروف أنها ( عين كارم) حيث تقيم أليصابات مع زوجها زكريا ” وقد مكثت مريم عندها نحو ثلاثة أشهر ثم رجعت إلى بيتها” (لوقا1: 56) أى أن مريم حضرت ميلاد يوحنا المعمدان ثم رجعت إلى بيتها فى الناصرة ، وكانت قد ظهرت عليها علامات الحبل إذ كانت حاملا لمدة ثلاثة شهور ، فلما رأى يوسف علامات الحمل ، وهو يعلم أن هذا الحمل ليس منه ، لا ريب أنه اضطرب وارتبك ، وداخله الشك والهم ، وأحس بالتناقض فى مسلك مريم : كيف كاشفته برغبتها فى البتولية الدائمة ، فاذا به يرى علامات الحمل بادية عليها ؟ ولاشك أنه سألها ، ولابد أنها أجابته بأن هذا الحمل ليس من زرع رجل ، إنما كما قال الملاك لها ” إن الروح القدس سيحل عليك وقوة العلىّ ستظللك ” (لوقا1: 35) . وصار يوسف تبعا لذلك فى حيرة من أمرها : هل هى فعلا صادقة كعهده بها دائما أم أنها قد زلت ، فى رحلتها إلى عين كارم ، تحت إغراء لم تقو على مقاومته؟ وظل كذلك فى بلبلة فكرية وحيرة وهمّ ثقيل. ثم كان لامفر له أن يتصرف بإزائها التصرف المناسب . لقد أمرت الشريعة برجم من فى مثل حالتها ” يخرجون الفتاة ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت لأنها عملت قباحة فى إسرائيل بزناها .. فتنزع الشر من وسطك ” (التثنية 22: 20، 21) . انظر أيضا (يوحنا8: 5) . قال الإنجيل عن القديس يوسف ” وإذ كان يوسف رجلها باراً ، ولم يشأ أن يشهر أمرها ، أراد ان يخلى سبيلها سراً . ولكنه فيما كان يفكر فى ذلك، إذا ملاك الرب قد ظهر له فى حلم قائلا: يا يوسف بن داود، لاتخف أن تستبقى مريم امرأتك ، لأن الذى سيولد منها إنما هو من روح القدس ” (متى1: 19، 20) .
5- وفى تصرف يوسف دليل جديد على برارته . فمع أن يوسف كان من حقه أن يشهر أمر مريم وأن يشكوها إلى شيوخ المدينة بأنها زانية ، فيحكمون عليها بالرجم بالأحجار ، لكن يوسف تنازل عما اعتبرته الشريعة أمرا مشروعا له كزوج ، تنازل عن حقه حتى لايفضح أمرها ويفسد سمعتها بين الناس ، ومن ثم يقضى عليها ويقتلها القتل الأدبى وأخيرا يقضى على حياتها بالرجم والتصفية الجسدية . وهذا فضل يذكره الإنجيل للرجل كبينة على تقواه وبرارته ورحمته بمن ظن هو أنها أخطأت وأساءت إلى طهارتها .
6- أضف إلى هذا أنه لتقواه وبرارته رحمه الرب من أن يقع فى خطيئة الظن السىء بمريم العذراء ، وبالتالى من أن يطردها بأن يخلى سبيلها سرا . حقا إن يوسف إنسان طيب القلب ، وقد تميز بسلامة الطوية والضمير وبالإخلاص . لذلك كلمه الله بالأحلام . والأحلام الإلهية موهبة تمنح لأصحاب القلوب النقية ممن لهم شفافية الروح. قال الإنجيل ” ولكنه فيما كان يفكر فى ذلك ، إذا ملاك الرب قد ظهر له فى حلم ” وعندما ظهر له الملاك لم يهدده أو يتوعده ، ولا ظهر له غاضبا ولم يعاقبه ، إنما حدّثه فى رقة وعذوبة تليق بالقديسين الأصفياء : ” يايوسف بن داود : لا تخف أن تستبقى مريم امرأتك ، لأن الذى سيولد منها إنما هو من روح القدس ” .
7- وقد صدّق يوسف قول الملاك فى الحلم ، ولم يشك فيه . إن زكريا وهو من شيوخ الأحبار شك فى كلام الملاك حين ” ظهر له قائما عن يمين مذبح البخور ، وقال له إن دعاءك قد استجيب وزوجتك أليصابات ستحبل وتلد لك ابنا ” (لوقا1: 26) ولذلك عاقبه الملاك ” وقال له : أنا جبرائيل الواقف أمام الله ، وقد أرسلت لأكملك وأبشرك بهذا . وها أنت ذا ستظل أبكم فلا تستطيع الكلام إلى اليوم الذى يتحقق فيه هذا لأنك لم تصدق كلامى الذى سيتم فى أوانه ” (لوقا1: 13-20) . أما يوسف فقد صدق كلام الملاك ، وصدق الحلم ، ولم يعتوره شك لا فى الحلم أنه حلم إلهى ، ولا فى قول الملاك ، على الرغم من أن حبل العذراء مريم من غير زرع رجل كان هو الحدث الأول من نوعه فى كل تاريخ البشرية .. وقد عمل يوسف بما قاله له الملاك مؤمنا أنه الحق بعينه . قال الإنجيل ” فلما نهض يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب ، واستبقى مريم امرأته ” ( متى1: 24) .
ب – ولم تكن هذه هى المرة الوحيدة التى يتعامل فيها الله مع يوسف البار من خلال الأحلام . فلقد ظهر له الملاك بعد أن اعتزم هيرودس قتل جميع أطفال بيت لحم وفى كل نواحيها حتى يقتل يسوع المسيح من بينهم ” ولما انصرفوا (= المجوس) إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلا : قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر . وامكث هناك حتى أقول لك . فإن هيرودس سيبحث عن الصبى ليهلكه . فقام وأخذ الصبى وأمه ليلا وانطلق إلى مصر . ومكث هناك حتى موت هيرودس ، ليتم ماقاله الرب بفم النبى القائل : من مصر دعوت ابنى ” ( متى2: 13-15) . لقد صدق يوسف الحلم ، وآمن بأن ماقاله الملاك له كان بأمر إلهى ، فلم يتردد ولا وقع فى حيرة، وإنما نهض مسرعا وعمل فورا بالأمر الصادر إليه من ملاك الرب . وهذه درجة إيمانية مرتفعة . ” لقد آمن فحسب له إيمانه برا ” (التكوين15: 6) ، (مزمور105: 31) ، (رومية4: 3، 9، 22) ، ( غلاطية 3: 6) ، ( يعقوب 2: 23) .
ج – كذلك ظهر له الملاك فى حلم ، وهو فى مصر . قال الإنجيل ” فلما مات هيرودس ، إذا ملاك الرب يظهر فى حلم ليوسف فى مصر قائلا : ” قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل ، فقد مات الذين كانوا يبتغون قتل الصبى ” . فلم يتردد يوسف كما لم يتردد فى المرتين السابقتين ، ولم يعتره أدنى شك فى صحة الحلم وأنه من الله . وقام فى الحال بما أمره الملاك دون إبطاء . قال الإنجيل : ” فقام وأخذ الصبى وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل ” . ومرة رابعة ظهر له الملاك فى حلم ، وأمره أن يمضى إلى نواحى الجليل . قال الإنجيل ” ولكنه حين سمع أن أرخلاوس قد ملك على إقليم اليهودية مكان هيرودس أبيه ، خاف أن يذهب إلى هناك . ثم أوحى إليه فى حلم مضى إلى نواحى الجليل ، وجاء وسكن فى مدينة تدعى الناصرة ” ( متى 2: 19-23) .
أليس مما يثير الإعجاب حقا أن الملاك لايظهر للعذراء مريم ليبلغها تلك الأوامر الإلهية بالنسبة للصبى يسوع المسيح وأمه العذراء ، وإنما يظهر ليوسف ! وفى هذا إبراز لقيمة يوسف ومكانته أمام الله ، وإبراز للدور الذى أُنيط للقيام به فى خطة التدبير الإلهى ، وأن دوره ليس دورا هامشيا أو ثانويا . وإنما شاء الله أن يجعل يوسف خادما للتجسد الإلهى، وله فيه دور إيجابى وفعال وبالغ الأهمية . فالرب يأمر ملاكه بالظهور له وإعلان مشيئته المقدسة إليه ، ولا يدعه كماً مهملاً ، وإنما يتعامل الله معه مباشرة ، ويأمره بتنفيذ تدبيره مشركا إياه فى العمل والتنفيذ . فكان يوسف فى مكانته هذه شبيها بإبراهيم الخليل الذى كان الرب يقول عنه ” هل أُخفى عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض، لأنى عرفته ..” (التكوين 18 : 17-19 ) .
وتسمّيه يســوع
على أن الله قد أعطى يوسف كرامة أخرى ، أعطاه أن يشترك مع مريم بالنسبة للمولود الإلهى فى أن ” يسميه يسوع ” أى مخلّص ” لأنه هو الذى يخلص شعبه من خطاياهم ” (متى1: 21) ، (لوقا1: 31) . وفعلا ” لما بلغ الطفل يومه الثامن ، وهو اليوم الذى ينبغى فيه ختانه ، دعى إسمه كما سمّاه الملاك قبل الحبل به فى بطن أمه ” (لوقا2: 21) .
يوسف زميل مريم فى رحلتها الطويلة مع المسيح
لم يكن يوسف إذن مجرد زوج شرعى لمريم يحميها من أقاويل الناس وإتهاماتهم – وإن كان زواجهما من طراز ذلك ( الزواج البتولى) – لكنه كان مصاحبا لمريم العذراء ورفيقا لها فى رحلتها الطويلة مع ابنها وسيدها يسوع المسيح . لقد كان هو (الرجل المسئول) عن العائلة المقدسة ، وكان هو ( العائل) لها أدبيا وماديا . وكان يشتغل نجارا ( متى13: 55) ، (مرقس6: 3) ليقوم بأود هذه الأسرة المباركة . وهذا شرف جزيل وبركة عظيمة ليوسف أن يأكل الرب يسوع المسيح وأمه العذراء الطهور من ثمر عمل يوسف وكد يديه . وإذا كان إسحق قد قال لابنه الأكبر ” اصنع لى أطعمة كما أحب وأئتنى بها لآكل حتى تباركك نفسى” (التكوين27: 4، 19، 25،31)، فكم نال يوسف النجار من بركات لا تحصى ؟! فهو ( الأب الاعتبارى) للسيد المسيح الذى عاله صغيرا ، وقد نال الشرف الذى لايرقى إليه شرف آخر بأن أكل المسيح من ثمر عمل يديه ، لا أكلة واحدة كما طلب إسحق من ولده الأكبر ، بل لقد استمر يوسف يعول العائلة المقدسة سنوات إلى أن توفاه الله ، وكان يسوع المسيح قد بلغ السادسة عشرة من تاريخ ظهوره فى الجسد .
لقد رعى يوسف مريم العذراء كل مدة الحمل وما قبلها، بحنان الزوج البار الوفىّ، وكفل لها كل أسباب الراحة الروحية والنفسية والجسدية . وقد صحبها ورافقها ولازمها وزاملها فى رحلتها الشاقة وهى حامل فى أواخر شهرها التاسع إلى بيت لحم، مدينة داود التى بإقليم اليهودية التى ينتميان إليها معا ، لأنهما الإثنين ” من بيت داود ومن عشيرته ” (لوقا2: 4) ، (1: 27) . وقد شاء الله أن يصدر “مرسوم أغسطس قيصر بإجراء تسجيل لسكان العالم كله .. فذهب الجميع لتسجيل أسمائهم ، كل واحد فى مدينته . ومن ثم ذهب يوسف أيضا من مدينة الناصرة التى بالجليل إلى مدينة داود المسماة بيت لحم التى باليهودية ، .. ليسجل اسمه مع مريم خطيبته التى كانت حبلى” (لوقا2: 1-5) لابد أن العذراء ركبت حمارا لتقطع المسافة الطويلة ، وهى حامل ، من الناصرة بإقليم الجليل فى شمال فلسطين إلى بيت لحم بإقليم اليهودية فى الجنوب ، ولابد أن يوسف كان يرعاها بحدبه وعنايته ممسكا كالعادة بمقود الحمار وهو يسير إلى جانبها يؤنسها ويشجعها ويسندها وهى فى الأيام الأخيرة لحملها . وقد حدث بعد وصولهما أنه حان هنالك موعد ولادتها فنزلا بفندق . وشاء الله أن لايكون لهما مكان فى الفندق ، فأقاما فى حظيرة للمواشى ” فولدت ابنها.. وقمطته وأضجعته فى مذود إذ لم يكن لهما مكان فى الفندق ” (لوقا2: 6، 7) . ويمكننا أن نتصور معاناة القديس يوسف مع مريم ، وهى متعبة وقد جاءها المخاض ، وليس لهما فى الزحام العظيم بمناسبة التسجيل العام مكان لينزلا فيه ، ولتلد فيه مولودها الإلهى ، ولابد أنه ذهب إلى كل مكان ليحضر لها قابلة لتساعدها على استقبال وليدها الإلهى . وتقول بعض مصادرنا الكنسية أنه بعد أن حضرت معه القابلة سالومى وجداها قد وضعت جنينها ، فلما اقتربت منها لتلمسها يبست يداها فانذهلت ، لكنها إذ لمست الطفل الإلهى عادت يداها سليمتين .
ولما ظهر ملاك الرب للرعاة بالبادية وبشرهم بالفرح العظيم بميلاد المخلص وهو المسيح الرب ، وظهرت لهم مع الملاك كوكبة من جند السماء يسبحون الله ثم ذهبت عنهم الملائكة منطلقة إلى السماء قال الرعاة بعضهم لبعض : ” هلموا الآن إلى بيت لحم لنبصر هذا الحدث الذى أنبأنا به الرب . ثم جاءوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا فى المذود ” (لوقا 2: 10-16) . ولابد أن انفعل يوسف كثيرا بما شهد به الرعاة ، وقد تعجب مبهورا مع ” كل الذين سمعوا الرعاة مما قالوه لهم ” (لوقا2: 18) . ولقد سمع بأذنيه ماقاله سمعان الشيخ وحنة بنت فنوئيل حينما صعد يوسف ومريم بالطفل يسوع المسيح عندما تمت أيام التطهير على مقتضى شريعة موسى ، وهى أربعون يوما لميلاد الطفل الإلهى ، ودخلا به الهيكل ، ليقدماه للرب ، وليقدما الذبيحة التى تفرضها شريعة الرب ، وهى زوجا يمام أو فرخا حمام ” فكان يوسف وأم الطفل يتعجبان مما قيل عنه ، وقد باركهما سمعان ” (لوقا2: 22-34) . ” ولما تمموا كل شىء وفقا لشريعة الرب ، رجعوا إلى مدينتهم الناصرة فى الجليل ” ( لوقا2: 39). ولما أصدر هيرودس أمره بقتل كل الأطفال فى بيت لحم وفى كل نواحيها ، ظهر الملاك فى حلم ليوسف وأمره أن يأخذ الصبى وأمه ويهرب إلى مصر ، وأن يمكث هناك حتى يقول له . فقام يوسف وأخذ الصبى وأمه ليلا وانطلق إلى مصر ، ومكث هناك حتى موت هيرودس . ولقد أركب يوسف مريم على الحمار ، وفى حضنها ابنها الإلهى ، وأمسك هو بمقود الحمار وهو يمشى إلى جانب مريم ووليدها يعتنى بهما ويحرسهما كمسئول عنهما ، من اللصوص وقطاع الطرق ، ودخل بهما أرض مصر ، وانتقل بهما من مكان إلى مكان فى رحلة طويلة شاقة لم يكد يستقر بهم المقام فى محطة حتى يثير الشيطان عليهم حربا ، فيخرج الكهنة الوثنيون والشعب يطاردونهم ويطردونهم لمدة أربع سنوات … وفى كل ذلك عانى يوسف المصير الذى عانته مريم لأنه زاملها فى رحلتها وصحبها معه ، وتقاسم معها ماقاسته من ضيق واضطهاد ، واحتمل معها ما احتملته من آلام نفسية وجسدية ، روحية ومادية . ولم يقاسمها آلامها بغير عمل . ولكنه ( كرجل) مسئول جاهد وكافح وناضل وتعب ، عاملا وخادما بفكره وقلبه وبدنه ، وبكل ما له من إمكانات وإمكانيات . فهو الخادم لسر التجسد . وإذا كانت العذراء مريم هى الخادم الأول لأنها هى التى حملت الله الكلمة فى أحشائها ، وأرضعته وربته كأم ، فإن يوسف البار هو الخادم الثانى لسر التجسد ، لأنه كان الحارس الأمين والخادم الوفى الذى بذل كل جهد يملكه رجل شيخ فى سبيل أن يوفر كل راحة ممكنة للسيد المسيح ولوالدته العذراء الطوباوية .
ولقد ظل القديس يوسف يقوم بواجباته ومسئولياته كرأس للعائلة المقدسة ، عائلا وحارسا وراعيا ، فى الناصرة . وأما فى مناسبة عيد الفصح فكان يحج إلى أورشليم فى كل عام مستصحبا معه العذراء الطاهرة وابنها الإلهى ، للعبادة فى الهيكل وتقديم القرابين . يقول الإنجيل : ” وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم فى عيد الفصح . فلما بلغ الثانية عشرة من عمره ، صعدوا إلى أورشليم كما هى العادة فى العيد ، حتى إذا رجعا بعد إنقضاء أيام العيد بقى الصبى يسوع فى أورشليم ، وأمه ويوسف لا يعلمان . وإذا كانا يظنانه ضمن القافلة ظلا مسافرين مسيرة يوم ، ثم راحا يبحثان عنه عند الأقرباء والمعارف . فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه . وبعد ثلاثة أيام وجداه فى الهيكل ، جالسا فى حلقة العلماء ، يستمع إليهم ويسألهم . وكان كل الذين يسمعونه مشدوهين من علمه وأجوبته . فلما أبصراه انذهلا ، وقالت له أمه : ” لماذا فعلت بنا هكذا يابنى ؟ فها هوذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين . فقال لهما : ولماذا تبحثان عنى ؟ ألا تعلمان أننى لابد أن أكون فيما هو لأبى ؟ فلم يفهما الكلام الذى قاله لهما . ثم عاد معهما إلى الناصرة ، وكان طائعا لهما ” (لوقا2: 41-51) .
ولئن دلت هذه القصة على شىء مما بذله يوسف البار من جهود مضنية فى خدمة سيده وسيدنا يسوع المسيح والسيدة المباركة والدته العذراء ، فإنما تدل أيضا على مبلغ ماناله يوسف من شرف وكرامة بمصاحبة رب المجد وملازمته له ملازمة تامة ورصد كل قواه الروحية والبدنية تحت قدميه . ويكفى القديس يوسف كرامة أن يذكر الإنجيل عنه ، أن يسوع المسيح كان طائعا له ولمريم أمه . فمبارك يوسف البار ، ومباركة حياته ومسيرته . إنه (الرجل) الأول فى خدمة رب المجد . فلتشملنا شفاعته وبركته مع العذراء الطاهرة مريم آمين .
أين كان يوسف النجار ؟
سؤال : من السيد / الشماس سامى سيدهم – دير أبو حنس – ملوى .
يقول أين كان يوسف النجار أثناء ولادة السيد المسيح من العذراء مريم ، وماهى الرسالة التى قام بها أثناء الولادة ؟
الجواب : أمّا يوسف النجار خطيب سيدتنا العذراء ، فقد كان فى ابان الحمل والولادة بالسيد المسيح (خادم سر التجسد) . وكانت العذراء مريم تقيم معه فى بيته منذ اليوم الذى عقد كهنة الهيكل عليه وعلى مريم العذراء عقد الزواج الرسمى المقدس، لتكون العذراء – وهى يتيمة من أبويها – فى حماية يوسف وتحت رعايته . ولما رأى أنها حملت ، وهو يعلم يقينا أن الحمل ليس منه، خامره الشك فى طهارة العذراء مريم “وإذ كان يوسف رجلها بارا ، ولم يشأ أن يشهر أمرها ، أراد أن يخلى سبيلها سرا ، ولكنه فيما كان يفكر فى ذلك ، إذا ملاك الرب قد ظهر له فى حلم قائلا: يا يوسف بن داود ، لاتخف أن تستبقى مريم امرأتك ، لأن الذى سيولد منها إنما هو من روح القدس ، .. فلما نهض يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب ، واستبقى مريم امرأته ” ( متى1: 19-24) .
وعاش القديس يوسف النجار مع مريم ، وكانت معه بمثابة ابنة وأخت صغيرة ، فكان يعمل فى حرفة النجارة ، وكانت هى تغزل وتخدم كرّبة بيت ( الأمثال31: 10-22) ، خادمة معه لابنها وربها وسيدها يسوع المسيح . وقد لازمها يوسف فى رحلتها إلى بيت لحم فى زمن التسجيل العام لسكان العالم حيث ولدت مريم وليدها الإلهى “ومن ثم ذهب يوسف أيضا من مدينة الناصرة التى بالجليل إلى مدينة داود ، المسماة بيت لحم التى باليهودية إذ كان من بيت داود ومن عشيرته ليسجل اسمه مع مريم خطيبته التى كانت حبلى . وفيما كانا هنالك حان موعد ولادتها ، فولدت إبنها البكر وقمطته وأضجعته فى مذود .. ” (لوقا2: 4-7) .
ولذلك فإن عامة الناس من اليهود اعتقدوا – فى مبدأ الأمر على الأقل – أن يسوع المسيح مولود حسب الطبيعة من يوسف ومريم ، وأنه ثمرة لزواجهما الرسمى ، فقال بعضهم ، ” أليس هذا هو ابن النجار ؟ أليست أمه تدعى مريم .. ” ( متى13: 55) وقال بعضهم أيضا ” أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذى نحن نعرف أباه وأمه ، فكيف يقول الآن إنى نزلت من السماء ؟ ” (يوحنا6: 46) ، (7: 27) . وقال الإنجيل “وكان يسوع حين بدأ رسالته فى نحو الثلاثين من عمره . وهو على ماكان الناس يظنونه ، ابن يوسف ” ( لوقا 3: 23) .
وقد لازم القديس يوسف النجار العذراء مريم عندما جاءت إلى الهيكل بعد أربعين يوما من ولادتها للرب يسوع المسيح لتقدم القربان الذى أمرت به الشريعة كل امرأة تلد ابنا ذكرا ( اللاويين 12: 2، 3، 6-8) ، (5: 11) .
قال الإنجيل ” ثم لما تمت أيام التطهير على مقتضى شريعة موسى ، صعدا به إلى أورشليم ليقدماه للرب ، عملا بما هو مكتوب فى شريعة الرب من أن كل فاتح رحم من الذكور يدعى مكرسا للرب . وليقدما الذبيحة التى تفرضها شريعة الرب . وهى زوج يمام أو فرخا حمام .. ولما دخل بالطفل يسوع أبواه ليؤديا عنه ما كانت تفرضه الشريعة ، حمله سمعان على ذراعيه ، وبارك الله ثم قال : الآن اطلق ياسيدى عبدك بسلام وفقا لكلمتك ، فإن عينى قد أبصرتا خلاصك .. ” يقول الإنجيل ” فكان يوسف وأم الطفل يتعجبان مما قيل عنه . وقد باركهما سمعان … ولما تمموا كل شىء وفقا لشريعة الرب ، رجعوا إلى مدينتهم الناصرة فى الجليل ” ( لوقا2: 22-39 ) .
ولازم القديس يوسف النجار العذراء مريم فى رحلتها إلى مصر عندما اعتزم هيرودس الملك أن يقتل الطفل الإلهى يسوع المسيح ” إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلا : قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر ، وامكث هناك حتى أقول لك ، فإن هيرودس سيبحث عن الصبى ليهلكه . فقام وأخذ الصبى وأمه ليلا ، وانطلق إلى مصر ، ومكث هناك حتى موت هيرودس .. فلما مات هيرودس ، إذا ملاك الرب يظهر فى حلم ليوسف فى مصر قائلا : ” قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل ، فقد مات الذين كانوا يبتغون قتل الصبى . فقام وأخذ الصبى وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل ولكنه حين سمع أن ارخلاوس قد ملك على إقليم اليهودية مكان هيرودس أبيه ، خاف أن يذهب إلى هناك . ثم أُوحى إليه فى حلم ، فمضى إلى نواحى الجليل ، وجاء وسكن فى مدينة تدعى الناصرة ( متى2: 13-23) .
وقد لازم القديس يوسف النجار مريم العذراء والطفل يسوع المسيح فى كل رحلة للحج إلى أورشليم فى عيد الفصح . يقول الإنجيل ” وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم فى عيد الفصح . فلما بلغ الثانية عشرة من عمره صعدوا إلى أورشليم كما هى العادة فى العيد حتى إذا رجعا بعد إنقضاء أيام العيد بقى الصبى يسوع فى أورشليم، وأمه ويوسف لايعلمان . وإذ كانا يظنانه ضمن القافلة ظلا مسافرين مسيرة يوم . ثم راحا يبحثان عنه عند الأقرباء والمعارف . فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه . وبعد ثلاثة أيام وجداه فى الهيكل جالسا فى حلقة العلماء يستمع إليهم ويسألهم .. فلما أبصراه انذهلا ، وقالت له أُمه : لماذا فعلت بنا هذا يابنى ؟ فها هوذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين ؟ فقال لهما : ولماذا تبحثان عنى ؟ ألا تعلمان أننى لابد أن أكون فيما هو لأبى ؟ فلم يفهما الكلام الذى قاله لهما . ثم عاد معهما إلى الناصرة ، وكان طائعا لهما ” ( لوقا2: 41- 52) .
ومما يجدر ذكره أن أُبوّة القديس يوسف للسيد المسيح أُبوة اعتبارية ، وليست أُبوة طبيعية جسدية . أى أنها أبوة بالوضع وليست أبوة بالطبع . وقد شاء الله أن يتم بين يوسف ومريم فى الهيكل عقد زواج رسمى ، حتى إذا ظهر الحمل الإلهى بيسوع المسيح ، لا تقع مريم العذراء تحت طائلة عقوبة الرجم متهمة بالزنى ( اللاويين20: 10) ، (التثنية22: 22) ، (يوحنا8: 5) .
وهكذا سار يوسف النجار أمام الله بقية حياته مسيرة القديسين ، خادما للرب يسوع، وللعذراء مريم ، فى الناصرة ، ملازما عمله كنجار ، لينفق على عائلته الصغيرة … وقد شاركه الرب يسوع عمل النجارة ، حتى عرفه اليهود بأنه ” النجار ” (مرقس 6: 3) و ” ابن النجار ” ( متى13: 55) مبينا بذلك شرف العمل ، وكرامته .
ونحن لانقرأ عن القديس يوسف النجار أنه حضر حفل العرس فى قانا الجليل الذى دعيت إليه العذراء مريم كما دعى إليه الرب يسوع وتلاميذه ( يوحنا 2: 1 ، 2) كما لانقرأ شيئا عنه بعد ذلك فى خدمة الرب يسوع ، ناهيك عن أنه عندما صلب مخلصنا، ورأى أمه القديسة مريم عند الصليب عهد بها إلى تلميذه يوحنا الحبيب فأخذها إلى بيته ( يوحنا 19: 25- 27 ) ، وهذا كله بينة على أن القديس يوسف كان قد توفى قبل ذلك بزمن طويل … ونحن نقرأ فى السنكسار تحت اليوم السادس والعشرين من شهر أبيب القبطى أن يوسف النجار قد توفى فى السنة السادسة عشرة لميلاد المسيح .
وتذكره كنائس الروم التى تتبع الطقس البيزنطى فى يوم الأحد بعد عيد الميلاد المجيد . أما الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الغربية فتعيد لذكراه فى اليوم التاسع عشر من مارس ( آذار ) .
حَنَّة أم العذراء مريم
فى اليوم الحادى عشر من شهر هاتور تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر وأقاليم الكرازة المرقسية ، بذكرى رقاد القديسة حَنَّة أم العذراء الطاهرة مريم ، وإنتقالها إلى عالم الخلود .
والمعروف عن القديسة حَنَّة HANNAH أنه معترف بقداستها فى الشرق والغرب. واسمها بالعبرانى hN:j:e معناه ( حنان – فضل – نعمة ) . وكانت كإسمها ، حنانا وفضلا ونعمة.
ففى الشرق يحتفل الروم الأرثوذكس والكاثوليك بعيد إنتقالها إلى عالم البقاء فى اليوم الخامس والعشرين من شهر يوليو (تموز) . وأما فى الغرب فيحتفلون به فى اليوم السادس والعشرين من نفس الشهر ( يوليو – تموز ) . ونعنى بالغرب ، على الأخص الكنيسة اللاتينية ، والكنيسة الأنجليكانية الأسقفية وتوابعها فى بريطانيا وكندا وغيرهما . وللقديسة (حَنَّة) عند الروم الأرثوذكس والكاثوليك عيد آخر يحتفلون فيه بها وبزوجها القديس (يواقيم) فى التاسع من شهر سبتمبر (ايلول) .
ولقد بنى الإمبراطور جستنيان ( JUSTINIAN ) الأول (483 – 565 م) أول كنيسة باسم القديسة (حَنَّة) ، فى مدينة القسطنطينية ، فى عام 565 لميلاد المسيح . وأما رفاتها فاستقرت فى روما فى القرن الثامن ، بكنيسة القديسة ماريا الأثريـــة St. MARIA ANTIQUA .
ولقد زاد الإهتمام بعيد القديسة (حَنَّة) فى الغرب منذ القرن العاشر . وفى العصور الوسطى صار الاحتفال بعيدها شعبيا . وقد أصدر الحبر الرومانى غريغوريوس الخامس عشر (1621 – 1622) براءة بجعل هذا العيد عاما وإجباريا . والآن يحتفل بهذا العيد، باحترام خاص ، فى كندا ، وفى بريطانيا ، إذ يعتبرونها شفيعة وحامية لهم.
لقد كانت (حَنَّة) امرأة فاضلة وعفيفة طاهرة ، اشتهرت فى زمانها بالتقوى والاحتشام ، وكانت تعيش مع زوجها البار(يواقيم) فى هدوء وسلام ووئام ، غير أنه كان ينغصهما أنه لم يكن لهما ولد يحمل اسمهما ، وقد كان العقم فى ذلك الوقت عارا، وكان الناس يُعيَّرون المرأة العقيم بأنها ملعونة ومغضوب عليها من السماء . ولعل هذا هو ماقصدت إليه اليصابات عندما حملت بالقديس يوحنا المعمدان بقولها ( هذا هو الفضل الذى صنعه الرب معى ، إذ عطف علىِّ كى ينزع عنى العار بين الناس) (لوقا 1: 25) ، وماعبرت عنه حَنَّة أم النبى صموئيل ، إذ كانت هى الأخرى عاقرا ، وقد عيرتها بذلك ضرتها وغير ضرتها ، (فصلّت إلى الرب وبكت بكاء ، ونذرت نذرا وقالت : يارب الجنود ، إن أنت نظرت نظرا إلى مذلة أمتك ، وذكرتنى ، ولم تنس أمتك ، بل رزقت أمتك زرع بشر ، فإنى أعطيه للرب كل أيام حياته ) (1. صموئيل 1: 10 ، 11 ) .
وظلت (حَنَّة) عاقرا ، ومر على زواجها عدد من السنين ولم ترزق نسلا ، فحزنت حزنا شديدا ، وشرعت تُصلّى إلى الله بحرارة ومرارة .
ويقول القديس افرآم السريانى (306- 373) م فى ميمر له ( بينما كانت (حَنَّة) تندب نفسها فى كل وقت قائلة : أى شئ تساوى حياتى من الدنيا ، مع تجردى من الثمر ؟ وهوذا البهائم والطيور وكل المخلوقات ترزق نسلا ، أما أنا فلم أرزق . الويل لى أنا ، وعظيم هو حزنى وألم قلبى . أسألك ، أيها الإله الدائم وحده ، الذى سمع صوت سارة زوجة أبينا إبراهيم ، وأعطاها إسحق بعد الكبر ، وسمع لراحيل وأعطاها يوسف وبنيامين … أن تسمع صوت دعائى ، أنا المسكينة الخالية من النسل ، وتعطينى زرعا يُسر به قلبى ، لأنى صرت مرذولة بين أهلى وعشيرتى ، سيما بعلى (يواقيم) الحزين القلب كثيرا . وها أنا أنذر بين يديك ياإلهى أن النسل الذى تعطينى لا أدعه يمشى على الأرض حتى أقدمه لهيكلك المقدس . وكانت القديسة (حَنَّة) تقول هذا الكلام وهى تبكى بكاء مراً … وفيما هى تصلى، ظهر لها الملاك جبرائيل بنور سماوى ، وقال لها : ياحَنَّة إن الله سمع لدعائك وصلواتك . وها أنت ستحبلين وتلدين ابنة مباركة ، وسيكون لها الطوبى فى جميع الأجيال ، وفى كل أقطار المسكونة ، ومنها يولد الخلاص من أسر إبليس ، لآدم وذريته . فأجابت (حَنَّة) الملاك جبرائيل وقالت : حى هو الرب ، لو أننى رزقت بمولودة كما قلت لى ، لسوف أقدمها قربانا للرب الإله ، لتخدمه كل أيام حياتها فى هيكله المقدس … وأما (يواقيم) زوج حَنَّة فكان قد ذهب إلى البرية وبنى لنفسه مظلة ، وعكف صائما مدة أربعين يوما يصلّى إلى الله، فظهر له الملاك المبشر جبرائيل وبشره بأن امرأته (حَنَّة) ستحبل وتلد ابنة تدعوها مريم تقرُ عينيه وتسرُ قلبه ، ويحصل بسببها الفرح والسرور للعالم أجمع . فعاد إلى بيته وأخبر زوجته (حَنَّة) بالرؤيا فصدقتها، وحدثته بما أعلمها به الملاك نفسه ، ففرحا معا فرحا عظيما ، وقالا : ليكن اسم الرب مباركا .ثم أولما وليمة كبيرة ، وقدّما لله قرابين الشكر لعزته ) .
وتعيد الكنيسة للبشارة بميلاد العذراء مريم فى السابع من مسرى وتعيد له كنيسة الروم الأرثوذكس والكاثوليك فى التاسع من شهر ديسمبر ( كانون أول ) .
وحبلت (حَنَّة) كقول الملاك ، ثم بعد تسعة أشهر وضعت الطفلة المباركة وسمتها مِريَم syer]m< MIRYAM وتعيد كنيستنا بميلاد العذراء مريم فى اليوم الأول من شهر بشنس، وتعيد له كنيسة الروم فى الثامن من شهر سبتمبر (ايلول ) .
وبرّت (حَنَّة) بوعدها ، ووفت بنذرها ، فما إن بلغت مريم العذراء الثالثة من عمرها – وهى فى العادة مدة الرضاعة – حتى حملتها إلى الهيكل لتكون خادمة للرب فى بيته . وكانت الأم (حَنَّة) تزور ابنتها من وقت إلى آخر تحمل إليها هداياها من طعام ولباس إلى أن بلغت العذراء الثامنة من عمرها فتوفيت أمها ، وكان الأب يواقيم قد سبقها إلى العالم الآخر منذ سنتين ، أى عندما كانت العذراء مريم فى السادسة من عمرها ، وبهذا أمست العذراء مريم فى الهيكل يتيمة الأبوين ، وظلّت هناك فى بيت الرب إلى أن صار لها اثنا عشر عاما .
والمعروف عن (حَنَّة) أم العذراء مريم أنها بعد أن ولدت العذراء مريم ، فتح الله رحمها فولدت بنتا أخرى دعتها هى الأخرى باسم(مريم) وهى التى عُرفت باسم (مريم الأخرى) (متى27: 61) ، (28: 1) . وقالت حَنَّة : مريم الأولى (وهى العذراء) صارت من نصيب الله ، أمّا مريم هذه فقد صارت من نصيبى . ومريم الأخرى هذه ، وهى أخت العذراء مريم الصغرى ، هى التى عندما كبرت تزوجت برجل يسمى حلفى أو كلوبا . وقد كان من عادة بعض اليهود أن يكون للواحد منهم اسم عبرانى أو آرامى، واسم آخر يونانى.. فكان حلفى هو اسمه الأرامى، وكلوبا هو اسمه اليونانى… هذه مريم الأخرى ، وأخت العذراء الصغرى هى التى عرفت أيضا باسم مريم زوجة كلوبا . قال الإنجيل ( وكانت واقفات عند صليب يسوع ، أمه ، وأخت أمه ، مريم زوجة كلوبا) (يوحنا 19: 25) وهى التى ولدت من كلوبا أو حلفى أولادا هم يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا، وبنات أيضا، قال الإنجيل إن اليهود قالوا عن المسيح ( أليس هذا هو ابن النجار ؟ أليست أمه تدعى مريم وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا ؟ أو ليست أخواته جميعهن عندنا ..؟ ) (متى 13: 55، 56) ، (مرقس 6: 3).
والواقع ، إن هؤلاء لم يكونوا إخوة أشقاء للرب يسوع ، وإنما كانوا أولاد خالته مريم زوجة كلوبا ، كما كانوا أيضا أولاد عمومة ، ذلك لأن كلوبا أو حلفى هو أيضا شقيق ليوسف خطيب العذراء مريم على مايروى القديس ابيفانيوس أسقف سلامينا فى قبرص (نحو 315 – 403) م عن القديس هيجيسيبوس HEGESIPPUS من آباء القرن الثانى ( كتاب الرد على الهرطقات 78 : 7) وكذلك يقول يوسيبيوس المؤرخ إن يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا لم يكونوا إخوة أشقاء للرب يسوع من أمه العذراء مريم ، ولكنهم كانوا له أولاد خؤولة وعمومة (يوسيبيوس – تاريخ الكنيسة ، الجزء الثالث ، فقرة 11) ، ( فقرة 32: 1-8) ، الجزء الرابع : فقرة 22: 4، 5) ولذلك عُرفت أخت العذراء مريم فى الإنجيل بأنها (مريم أم يعقوب ويوسى) (متى 27: 56) أو بأنها (مريم أم يعقوب الصغير ويوسى ) (مرقس 15: 40) أو بأنها (مريم أم يعقوب) (مرقس 16: 1) ، (لوقا24: 10) أو بأنها (مريم أم يوسى ) ( مرقس 15: 47 ) .
مريم المجدلية(1)
بطلة من بطلات المسيحية التى تفخر بها الكنيسة والكتاب المقدس معا هى مريم المجدلية . إنه وان وجد بين الرجال من هم نفعوا المسيحية بإيمانهم وأعمالهم ودفاعهم وتضحياتهم ودمائهم التى سفكوها فى سبيل تسليم الإيمان القويم لنا إلا أننا مع ذلك لاننكر ما للنساء من حقوق وخدمات ، لاننكر أن من بينهن من نُبْنَ عنهن فى إظهار الفضائل فى سيرة جيدة وأعمال طيبة . فها الكتاب المقدس يذّكرنا بسارة التى دعيت أما للمؤمنين لتقواها وطاعتها لزوجها وشريك حياتها ونهجت بذلك أجمل مسلك للسيدات فى كل زمان ومكان . وها هو يُخبرنا عن حنة أم صموئيل النبى وكانت بطلة فى قوة الإيمان والاتكال على الله ومثلا أعلى للمصلّيات والمصلين إذ تعرفهم كيف يجب أن تكون الصلاة حارة وبدموع وها هى اليصابات التى شهد الكتاب لتقواها بقوله إنها كانت وزوجها باران وسالكين فى جميع وصايا الرب وطرقه بلا لوم والتى ولد منها الذى قيل عنه ” أنه لم يقم من بين المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر فى ملكوت السموات أعظم منه ” .
وها هى ملكة السيدات والأسياد وربة الطهر والجلال التى استحقت واستأهلت أن تدعى أما لله ووالدة لمبدع الكائنات والموجودات هى القديسة مريم العذراء .
واليوم نشاهد بطلة أخرى هى فخر النساء والتى لايجب أن يذكر اسمها إلا بالتورع والاحتشام والتقدير لتاريخ حياتها المجيد ولشخصيتها الفذة البارزة هى مريم المجدلية . لم يذكر الكتاب لمريم المجدلية شيئا عن ولادتها أو عن حياتها الأولى فلم يقل عنها من هذه الحلقة سوى أنها هى تلك التى أخرج منها السيد المسيح سبعة شياطين، وكلمة الكتاب هذه لهى أكبر دليل على ماكانت عليه مريم من حال البؤس الأخلاقى والفقر المدقع لملابس البر، والجوع الشديد لخبز الحياة والظمأ العظيم لماء النعمة الجارى . ولقد كانت بطلة فى النساء فبعد أن تبعت المسيح وتجددت سيرتها وتنقت من خطاياها وتخلى عنها شياطينها وعملت العناية الإلهية والنعمة القدسية فى قلبها أصبحت بطلة النساء . بطلة الإيمان والتضحية . وقلبها الذى كان مسكنا للشياطين أصبح عرشا جليلا جديرا بابن الله ، تبعت المسيح فتركت كل ماكان لها فى الحياة وصارت تخدم المسيح من أموالها . زهدت الدنيا ومافيها وعلمت أن هيئة هذا العالم تزول وكل مافيه سيبطل
——
(1) نشر بمجلة الإيمان – السنة الثامنة العدد الأول – سبتمبر 1938 م .
واكتفت بالمسيح ربا وإلها سيدا وعريسا وفيه كل الكفاية والغنى . ماتت عن العالم وشهواته لتحيا حياة جديدة هى حياة الإيمان والمحبة العاملة .
كانت مريم المجدلية من بلدة تدعى مجدل ولذلك دعيت بهذا الاسم . مريم المجدلية نراها إحدى الواقفات عند صليب يسوع تذرف الدموع السخينة باكية متألمة متوجعة فكأنها مانسيت إحسان سيدها وأرادت أن ترد له الجزاء . ترك التلاميذ سيدهم وإلههم وربهم ومرسلهم الذى عاشوا معه وسمعوا لكلامه وأصبحوا رسله وأصفياءه ولكن مريم المجدلية لم تنس واجبها فعملت مالم يعمله التلاميذ . ذهبت مبكرة إلى قبر السيد المسيح لكى تضع على جسده أكفانا وحنوطا ولذلك كانت هى أول من حظى وتمتع بقيامة الرب يسوع . وهكذا لايحرم الرب أولئك الذين يجاهدون لأجله من أن يُظهر لهم ذاته . مريم المجدلية هى أول من بشر بأعظم خبر مفرح فى العالم وهل أعظم من قيامة الفادى يسوع منتصرا على الموت وقوته وكاسرا شوكته، بل هى تلك التى وقفت بشجاعة تقرع أبواب التلاميذ تخبرهم بهذا الانتصار العظيم والفوز المبين ، وان أول مايتبادر إلى الذهن عندما نسمع كلمة يسوع (لاتلمسينى) أن مريم نجسة لاينبغى أن تلمس يسوع الطاهر ولكن الرب لم يقصد ذلك بل إن مريم عندما عرفته أرادت أن تمسكه حتى لايذهب أو يصعد أو يختفى عنها لهذا طمأن الرب خاطرها قائلا لاتخافى يامريم ولاتلمسينى ولاتمسكينى فإنى سأظل معكم أربعين يوما، إنما اذهبى وبشرى إخوتى بقيامتى . لاتضيعى وقتك وجهودك فى أن تتعلقى بى بل اسرعى واذهبى إلى التلاميذ وطمأنيهم لأنهم منزعجون ومضطربون . إن قلبى يشفق عليهم كثيرا فى هذه الآونة التى أحدقت فيها الويلات والمصائب بهم من كل جانب، لذلك أطلب إليك أن تسرعى وتبشريهم بقيامتى حتى تسكن قلوبهم وينزع خوفهم منهم .
وهنا ننظر إلى مريم نظرة أخرى غير تلك التى رمقناها بها أولا إذ تراها مكللة بإكليل من الفخار والشرف وننظر إليها وإذا هى رسولة رب الجنود إلى جماعة التلاميذ المضطربين تتطلع إليها وإذا هى الفرحة المبتسمة . وإذا هى المطمئنة الطربة وإذا هى السعيدة المرحة . ولعل التلاميذ رأوا على وجنتيها دموعا ولكن ماعلموا لها معنى فهى دموع حالتين : حزن مفرط وفرح شديد . وكأنها أنشئت مع الشاعر قائلة :
ياعين قد صار البكاء لك عادة تبكين من فرح ومن أحزان
هجم السرور علىّ حتى أنـه من فرط ماقد سرنى أبكانى
ياله من شرف عظيم يامريم ذلك الذى حصلت عليه ، وياله من شعور حب عظيم ذلك الذى أظهره يسوع الحبيب نحو هذه الفقيرة البائسة والباكية المنتحبة . والمحبة المضحية – ليتك تعودين إلى العالم المستهتر بالمسئولية لكى تصفى له شعورك عندما سمعت هذا الأمر من مخلصك، إننى أشعر بأنك ماكدت تسمعين آخر كلمة من رسالة السيد إليك حتى حسبت نفسك غير مستأهلة أن تتممى ما أمرك به يسوع لهذا ركضت ولهذا جريت غير حاسبة لكلمات المنتقدين حسابا وذلك لأنك كنت لاتعرفين غير شىء واحد أنك تتممين المسئولية التى ألقيت على عاتقك . لاتريدين أن ترتاحى قبل أن تبلغى رسالتك . ربما عثرت فى الطريق يامريم بل ربما وقعت كثيرا وسالت الدماء من قدميك ومن أعضائك التى اصطدمت بالأحجار . ولكنك ماشعرت بذلك الألم ألما ولكن فخرا وشرفا وكانت مراهم تلك الجراح هى الذكريات فى القيامة المجيدة والتأمل فى أن يسوع هو الذى أرسلك . مالك يامريم هكذا متعبة وهكذا منهكة القوى، تلهثين من الركض وكأن قلبك قد أوشك أن يقف لسرعة دقاته – عجبا وهل أحسب نفسى أهلا أن أتعب حتى الموت من أجل اسم يسوع، إذا اسمعوا أيها الرعاة الأمناء واصغوا أيها الوعاظ الأتقياء وجاهدوا أيها المجاهدون الأقوياء فإن آلام الزمان الحاضر لاتقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا، إذا إصابتكم كروب ونزلت بكم نوازل . إذا طردتم وأوصدت الأبواب فى وجوهكم ليس من الغرباء بل من أبناء المسيحية كما يفهم اليوم فى مصر . إذا أطلقوا عليكم كل كلمة شريرة كاذبين من أجل المسيح فافرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم فى ملكوت السموات . طوباكم أيها الباكون لأنكم ستفرحون وسوف لاينزع أحد فرحكم منكم طوباكم أيها المتألمون من أجل اسمه لأنه مكتوب إن كنا نتألم معه فسنتمجد أيضا معه .
مريم المجدلية لم نرها تقف عند هذا الحد من جهادها وهكذا المجاهدون تأبى عليهم نفوسهم الأبية أن يقفوا مكتوفى الأيدى عندما تكون الحاجة ماسة إلى جهادكم وتضحياتهم . فلما صعد الرب يسوع حدث إضطهاد عظيم جدا على المسيحيين وكان اليهود يذيقونهم مر العذاب فتوجهت مريم صوب الغرب وذهبت إلى رومية حيث القيصر وبسطت أمامه شكواها وقصت على مسامعه الظلم الذى أصاب المسيح حيث صلب وهو البرىء دون أى ذنب اقترفه وكيف أنه هو ذلك الذى شفى أسقام اليهود وغيرهم وفتح عيون عمياهم وأقام موتاهم وطهر برّصهم وأمشى مفلوجيهم وأرشدهم إلى طريق الحياة، وحثهم على الفضيلة بكل وداعة واتضاع وأظهر محبة حقيقية نحو الجميع أسر بها القلوب . فلما حقق القيصر ودقق وجد أن شكواها عن حق وحيث اتفقت مع ما أرسله بيلاطس إليه عن أخبار المسيح لهذا أصدر أمراً إلى بيلاطس لكى يحضر للمحاكمة التى انتهت بالحكم عليه بالنفى . ثم أصدر أمرا لليهود بعدم اضطهاد المسيحيين ومن يخالف ذلك يعاقب عقابا صارما ثم أمر بأن يعد يسوع بين الآلهة الرومانية . هذا ماعملته مريم المجدلية الذى لايعمله كبار المجاهدين . دافعت دفاع الأبطال الساهرين والمحامين القديرين فصادت شبكتها وأفلحت فى جهادها فمجدت بذلك سيدها إذ آمن به القيصر وشعبها إذ خف الاضطهاد عنهم . فسلام على مريم وجهادها وسلام على إيمانها وثقتها . فليت الرب يعطينا نعمة حتى نجاهد الجهاد الحسن ونمسك باكليل الحياة الأبدية التى إليها دعينا . ليت الرب يسكب على قلوبنا المحبة المضحية من نحو اسمه والشجاعة والإقدام والثبات والإيمان الكامل . ليته يخلق ويوجد للكنيسة فى محنتها رجالا ونساء أمثال مريم المجاهدة له المجد إلى الأبد آمين .
أبــرار معاصــرون