البابا كيرلس السادس ظاهرة روحية فى جيلنا تستحق التسجيل للتأريخ ، ولتكون حلقة للوصل ذهبية فى سلسلة طويلة من تاريخ طويل حافل بالأمجاد الروحانية للكنيسة القبطية المصرية الأرثوذكسية .
وعلى الرغم من أن البابا كيرلس السادس لم يكن خطيبا أو واعظا منبريا ، بل لم يكن من أصحاب المؤهلات العلمية العالية ، ولم يكن كذلك من أصحاب القلم ، فلم يؤلف كتبا ، ولم يحرر مقالات طويلة .. مع ذلك قد ترك على قلوب الملايين فى مصر وخارج مصر .. فى كل أفريقيا وآسيا وأوربا وأمريكا .. آثارا عميقة أبعد غورا من أن يغطيها النسيان ، أو تمحوها الأيام … وسيظل اسمه فى ذاكرة الأجيال مقترنا بالعبادة والقداسة والفضيلة ، مع البساطة الصادقة ، والوداعة الحقيقية، والرؤيا الباطنية ، والكشوف الروحانية … فكان وما يزال عند الكثيرين فى صفوف الأنبياء بما توافرله من الجلاء البصرى ، والجلاء السمعى، والجلاء الحسّى ، والرؤيا لبعض الماضى ، وبعض الحاضر ، وبعض المستقبل … ونقول ( بعض ) لأنه ما كان له كإنسان إلاّ بقدر ما وهبه الله من معرفة محدودة مقيّدة بحدود بشريته وإنسانيته . ومع ذلك فمعرفته هذه المحدودة والمقيّدة ، تفوق كثيرا معرفـة الملايين من البشر ممن توافرت لهم ثقافة علمية ، ودراسة منهجية عن طريق الكتب والمعلمين ووسائل الإعلام المتداولة . إن المعرفة التى تميز بها البابـا كيرلس هى من نوع ذلك العلم الذى يعرف عند الرهبان والمتصوفين والروحانيين بأنه ( العلم اللَدنّى ) أى العلم الذى من لدن الله تعالى ، هو ذلك الطراز من العلم الذى لا يأتى عن طريق الكتب أو المعلمين أو الوالدين ، وإنما هو ذلك النور الذى يشرق فى القلب من عل ، وينبثق فى داخل النفس انبثاقا ، علما مباشرا بغير واسطة ، يأتى وكأنه ضرب من الإلهام من غير مقدمات ومن غير منطق البرهان ، ومن دون تدرج أو تسلسل عقلى أو فلسفى .. إنه علم من الله مباشرة يتولد من منحة علوية ، وقوة عالية على الطبيعة أو بالأحرى فوق الطبيعة .. هذه التى عبّر عنها الكتاب المقدس بقوله ” وأما أنتم فإن المسحة التى نلتموها منه تثبت فيكم ، وليس بكم حاجة إلى أن يعلمكم أحد ، بل كما تعلّمكم مسحة الروح هذه عن كل شىء ، وهى حق ، وليست كذبا ، فكما علمتكم اثبتوا فيه ” (1. يوحنا 2: 27). وقال عنها المسيح له المجد ” إذا جاء المعزى وهو الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى ، سيعلمكم كل شىء ، ويذكركم بكل ما قلته لكم … ذاك الذى هو روح الحق فهو يرشدكم إلى الحق كله … وسيخبركم بأمور آتية . (يوحنا 14: 26) ، (16: 13 ) .
لقد مضى على وفاة الرجل عشر سنوات كاملة ، فقد توفاه الله فى صباح التاسع من مارس لسنة 1971 ، ومع ذلك فهو حىّ فى ذاكرة الناس كأنه مازال على قيد الحياة بالجسد ، بل إن كثيرين مازالوا يعاملونه ويعاملهم ، تماما كما كان فى الجسد حيا ، يرشدهم ويوجههم ، ويعينهم ويغيثهم ، ويحل مشاكلهم ، وينقذهم من مآزقهم، ويعالج أدواءهم وأمراضهم ، ويزورهم فى الليل والنهار ، فى النوم وفى اليقظة، بصورة منظورة حينا ، وبصورة غير منظورة حينا آخر .. وفى جميع الأحوال ، بأبوة حانية ، ورعاية ساهرة ، وعاطفة روحانية… لقد صار سريع الاستجابة لمن يستغيث به ، ولا يقتصر نشاطه على حدود جغرافية ، فقد صار يناديه البعض ، ممن يؤمنون بصلواته التى تقتدر كثيرا فى فعلها ، فى كل أنحاء مصر : شمالها وجنوبها … بل ومن القبط ممن هاجروا إلى ألمانيا، وفرنسا ، وانجلترا ، وكندا ، والولايات المتحدة الأمريكية … وغير ذلك من بلاد أفريقيا وأقاليم آسيا وأوربا واستراليا .. بصورة تزداد كل يوم انتشارا واتساعا … وقد صار كثيرون يسمّون أولادهم ( مينا ) أو ( كيرلس ) تيمنا باسمه وباسم حبيبه مارمينا العجائبى الذى ارتبط به فى صداقة قوية عشرات السنين… خصوصا من ولدوا منهم لأمهات عواقر أو آباء عقيمين ، أنعم الله عليهم بهم بفضل صلوات الرجل القديس وبركاته ، وإكراما لدعواته أمام الله الذى وعد قائلا : ” إن الذين يكرموننى إياهم أكرم ، والذين يستهينون بى يهانون ” ( 1. صموئيل 2: 30 ) .
منذ عهد البابا كيرلس الخامس إلى عهود البابوات اللاحقين ممن سبقوه فى حبريته ، لم يحدث أن احتفل الأقباط بذكرى وفاة البطريرك السابق أو الراحل أكثر من سنة … أما البابا كيرلس السادس ، فها هى السنة العاشرة لوفاته والناس يقبلون على الاحتفال بذكراه بأعداد وفيرة من جميع البلاد ، ممن رأوه بعيونهم ، وممن لم يروه فى حياته … ونحن لا نبالغ إذا قلنا أننا نلاحظ أن الأعداد تتزايد فى كل سنة عن سابقتها …
أليس حقا أن هذه ظاهرة غير عادية ..؟ أنه على الرغم من أن الرجل قد توفى منذ عشر سنوات ، وعلى الرغم من أن أشقاءه أيضا قد توفاهم الله ، لكن الناس يتوافدون على الدير فى صحراء مريوط ـ وهى بعيدة جدا بالنسبة لمن يقصدونها من القاهرة وسائر أقاليم الصعيد.. وعلى كنيسته فى مصر القديمة ، لا ليجاملوا أحدا من أقاربه وأسرته فى الجسد ، ولكن لينالوا بركته ، ويعبروا عن وفائهم نحوه ، وحبهم له … الأمر الذى برز بالنسبة للبابا كيرلس السادس بصورة لم يسبق لها ، مما يدل على الأثر الواضح والعميق الذى تركه البابا كيرلس السادس فى حياة الأقباط أفرادا ، وشعبا .
إن هذه الظاهرة إن دلت على شئ ، فهى تدل على أن الانطباع الذى يتركه الإنسان العظيم فى نفوس الناس ، لا يقاس بكثرة ما يقول وما يكتب ، وإنما مقياسه بالأحرى هو ما تنطوى عليه شخصيته الباطنة من قيم روحانية ، وما يشعه فيمن يدخلون فى مجاله القريب والبعيد من إشعاعات نفاذة تصيب وتصيد وتجذب ، وما يفيده الناس منه بما يبنى حياتهم فى واقعهم ، وما يلمسونه منه مما يؤكد لهم أن الرجل رجل دين بطبيعته . والدين بالنسبة له هو حياته فى الباطن قبل الظاهر . إنه يعيش ويعايش المبادئ التى يمثلها . لقد رأى الناس فيه تجسيدا لما يبتغونه فى رجل الدين .. إن فيه يتمثل الدين باطنا وظاهرا . وقديما قال أحد الحكماء ” التعليم بالكلام سفر طويل، وأما التعليم بالمثال فطريق سهل “
ليس هذا معناه أن الذين سبقوه كانوا أقل منه روحانية ، وتقوى… فليس فى مقدورنا أن نزن الناس بميزان ، لنعرف من هو أكثرهم تدينا.. إن الله وحده هو ” وازن الأرواح ” ( سفر الامثال 16: 2) أما الناس فلهم بقدر معرفتهم المحدودة مقاييسهم ، فيقبلون على إنسان بقدر ما يجدونه نافعا لهم … والنفع والانتفاع درجات وأنواع… لقد وجدوا فى البابا كيرلس السادس رجل دين ، يلمس إحتياجاتهم الروحية والنفسية والصحية … فاستغاثوا به فأغاثهم ، واستعانوا به فأعانهم .. طلبوا بركته فباركهم ، سألوه فأجابهم ، ولم يخيّب رجاء أحد ( لوقا 6: 35) .. كانت له لمسة شافية ، وصلواته ” لها قوة عظيمة فعاّلة ” (يعقوب 5: 16 ) ، بالإضافة إلى ما حباه الله من كشف روحانى … فكان يقصده إنسان ، فيبتدره البابا بكلمة أو بجملة صغيرة يجد فيها هذا الإنسان جوابا لسؤاله الذى جاء من أجله ، وأحيانا من قبل أن يفوه بسؤاله ، وكثيرا ما يسمع منه من يقابله ويسمعه رسالة فى كلمة … أو كلمة فيها رسالة لحياته كلها أو بعضها … وبعض من هؤلاء يرددون اليوم كلمة أو عبارة قالها البابا كيرلس السادس لهم منذ عشر سنوات أو عشرين سنة ، وهى على ما تبين لهم كلمة ثمينة غالية ، تحققوا صدقها، ورأوا فيها رسالة إلهية ، أو نبوءة عن المستقبل القريب أو البعيد ، أو كشفا عن واقع مستور أو محجوب …
لكن الأشد غرابة .. هو أن الرجل كانت له فى حياته موهبة الانتقال بالروح عبر المسافات … فكان يظهر لبعض الناس فى بيوتهم أو أماكن وجودهم ، ويعينهم على حل مشاكلهم ، ويخلّصهم من ضيقاتهم ، ويصلى عنهم ويباركهم ، ثم تغادر روحه المكان ، ولا يبقى لوجوده فيه دليل مادى غير بخور أو رائحة زكية عطرة ، بالإضافة إلى ما يتركه من صور ذهنية فى ذاكرة الذين زارهم فرأوه رؤيا العيان.. وتزداد دهشتهم إذ يلتقون به بعد ذلك ، فيجدونه عارفا بزيارته لهم ، ويتمم فى حديثه مابدأه معهم فكان فى هذا شبيها بأليشع النبى الذى ذهب ( بالروح) وراء تلميذه جيحزى ( ورآه ) وهو يجرى وراء نعمان رئيس جيش ملك آرام ويأخذ منه فضة وثيابا (2.الملوك 5: 26) وكان شبيها بالأنبا فريج الشهير بالأنبارويس ، وبالرهبان السوّاح ، الذين ينتقلون بالروح أو بالجسد… وهو ما يعرف بالاختطاف العقلى ، والاختطاف بالجسد ، على نحو الاختطاف الذى حدث للقديس فيلبس الشماس فى غزة فانتقل بالجسد إلى أشدود (أعمال الرسل 8: 26، 39، 40) وكذلك الاختطاف الذى حدث لحبقوق فانتقل من فلسطين إلى بابل فى العراق حيث كان دانيال النبى فى جب الأسود ، ” فأخذ ملاك الرب بجمّته ، وحمله بشعر رأسه ورفعه فى بابل عند الجب باندفاع روحه ” ( دانيال 14: 32 – 35 ) .
وكل هذا يتبينه الناس عمليا فى حياة البابا كيرلس السادس ، ويكتشفونه فى بساطة صادقة نادرة من غير رغبة منه فى إعلان .. وهذا يدل على إحساس عميق عنده بأن هذه القدرة موهبة من الله ، لا فضل له فيها ، وهبه الله إياها ليخدم بها الناس فى جيله ، إذ كان يعلم فى قرارة نفسه أنه إنسان بسيط فى علمه ، ولقد لازمه هذا الإحساس فى كل حياته ، ولذلك فإنه بكى كثيرا يوم أبلغوه باختياره بطريركا ، شاعرا شعورا صادقا بأنه سيحمل على كتفيه حملا ثقيلا أكبر من أن يحتمله منكباه … وقد التقطوا له صورة ، تحمل لمن يتأملها كل تلك المشاعر الدفينة فى نفسه بعدم أهليته ، وعدم إستحقاقه ، وخوفه وإرتعاده من ثقل تلك المسئولية الضخمة التى يؤمن هو أنها أعظم من أن يحملها بنجاح .
لذلك ، ولأن إحساسه بضعفه كان إحساسا صادقا ، فقد لازمه هذا الإحساس كل أيام حبريته ، فظل متواضعا على الحقيقة ، فلم يزعم أو ينسب لنفسه مايؤمن فى أعماقه أنه ليس له … لهذا كان يعهد إلى الآخرين من المطارنة والأساقفة والكهنة والأراخنة من أولاده ، ما يرى أنهم أقدر منه على القيام به ، وهذه كشفت عن ظهور فضيلة أخرى فى الرجل ، وهى استعانته بإخوته من المطارنة والأساقفة وأولاده الكهنة والأراخنة ، فكان موفقا فى هذا كرئيس أعلى ، إذ أتاح لغيره فرصة العمل والخدمة … وعلى سبيل المثال لا الحصر كان دائما ينيب عنه فى رسامة القسوس والشمامسة فى القاهرة أو الأسكندرية واحدا أو أكثر من كبار المطارنة والأساقفة ، وكذلك الأمر فى رسامة الرهبان والراهبات .. على الرغم من أنه كان يصلّى القداس يوميا ، وذلك لكى يعطى لغيره من المطارنة والأساقفة ورؤساء الأديرة فرصة العمل والخدمة ، ويحتفظ لنفسه بما تقتضيه واجبات الرئاسة والمسئولية الكبرى … وكذلك ترك للمجلس الملى العام فى القاهرة ، والمجلس الملى بالاسكندرية حرية الاجتماع من غير وجوده مكتفيا بأن يقف من وكيل المجلس وأمين السرّ على نتائج الاجتماع وقراراته حتى يوقع عليها ويعتمدها .. وحتى إجتماع الكهنة بالقاهرة والأسكندرية كان يعهد برئاسته إلى الوكيل العام بصفته رئيس مجلس الكهنة … وبالمثل فى مجالس كنائس القاهرة والأسكندرية ، بل وأيضا فى المجلس الاكليريكى بالقاهرة والاسكندرية فقد استمر الوضع فيه كما كان فى عهود البطاركة السابقين ، يكتفى البابا البطريرك بأن يقف من رئيس المجلس وأمين السرّ على نتائج مباحثاته وقراراته ليعتمدها ، تاركا للمجلس وأعضائه حرية العمل بما يضاعف وينمى إحساسهم بالمسئولية ، ويترك للبابا البطريرك وقتا للاضطلاع بالمسئولية العامة ، وهى عظيمة جدا ، خصوصا فى زماننا الذى تعقدت فيه مسئولية الرئيس العام ، وتضاعفت فصار مضطرا إلى الإكتفاء بالإشراف على الأجهزة العامة الكبيرة . وقديما قبل موسى ، وهو نبى الله ، نصيحة من كاهن مديان إذ قال له : ” ما هذا الذى أنت تصنعه للشعب ، وما بالك جالسا وحدك وجميع الشعب واقفون أمامك من الصباح إلى المساء … فإنك تكل أنت وهذا الشعب الذين معك جميعا أيضا ، لأن هذا الأمر فوق طاقتك ، ولا تستطيع أن تتولاه وحدك ، والآن اسمع منى ما أشير به عليك … فانظر من جميع الشعب ، أُناسا أقوياء أتقياء لله ، أمناء ، مبغضين الرشوة ، وول منهم عليهم رؤساء … فيكون أنهم يقضون للشعب فى كل وقت ، ويرفعون إليك كل أمر عظيم ، وكل أمر صغير يحكمون فيه هم ، وخفف عن نفسك ، فهم يحملون معك …فسمع موسى لصوت حميه وصنع جميع ما قاله له ” ( الخروج 18: 13- 27 ) .
تلك أبرز صفات البابا كيرلس التى ظهرت منه فى فترة حبريته، نذكرها بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته مترحمين عليه ، طالبين له الرحمة ، والنياح فى فردوس النعيم ، ولعلنا ننتنفع بما فى حياته من دروس وعبر ، وقيم روحية وأبدية .