من أنا ؟ لماذا أنا هنا ؟ وماذا بعد هذا ؟

الموقع الرسمى للمتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى
Anba Gregorios, Bishop of Scientific Research Website

who-am-i

من أنا ؟ لماذا أنا هنا ؟ وماذا بعد هذا ؟

الإنسان ذلك الكائن الجسدانى والروحانى معاً، امتدت معرفته وشملت الأرض والبحر ومافيهما من كائنات وموجودات ، وارتفع فوق الأرض إلى السماء ، وكشف مافيها من أجواء وحلَّق فى الفضاء ، ونزل على القمر وسافر فى الفضاء البعيد ليستكشف الكواكب الأخرى ، ومنها المريخ والزهرة ولن تقف رغبته فى المعرفة عند حدّ ، فأشواقه نحو المعرفة عارمة ، وهى التى تدفعه إلى البحث والإستقصاء ، ومن ثَمَّ إلى الإكتشاف ، فيسعد بما يكشف ومايعرف ، فتنفتح شهيته إلى مزيد من الإكتشاف إرضاءً لرغبته فى المعرفة ، وإشباعا لميله الدافق إلى سبر أغوار الوجود

إنه يدرك بإحساس عميق أنه كائن غريب فى هذا الكون ، وأنه قادم من عالم آخر، فى رحلة يعود بعدها إلى وطنه الحقيقى وهى إذن رحلة قصيرة مهما طالت فليستكشف الوجود من حوله ليعرف مقامه فيه، ونسبته إلى هذا الوجود، إذ كيف يعود إلى عالمه الذى نزل منه قبل أن يكتشف العالم الذى نزل إليه بالميلاد.

          على أنه من لهفته لمعرفة ماهو خارج نفسه ، نسى نفسه أو غفل عنها ، وشدته شواغل الحياة ، وجذبت أنظاره مغرياتها ، واستحوذت على قلبه اهتماماتها ، فلم يعد يجد وقتا، ولا دافعا ، لإستكشاف نفسه ، بل لعلّه صار راغباً فى أن يهرب من نفسه ، ويبعد عن ذاته ، حتى لايُحرم من الإستمتاع بما حوله من مثيرات أصبح يراها جميلة، وجديرة بأن ينصبَّ عليها ويغترف منها ، ما وسعه ذلك ، بل أمسى يخاف من نفسه، إذا انتبه إليها ، أن تمنعه أو تصدّه أو تحدّ من تكالبه على الأخذ بما فى الحياة من حوله، من إمتاع ولذات وزادت رغبته فى الإنهماك فى شواغله وشهواته الجسدية والمادية والحِسّية ، ومعها خوفه من نفسه ، فصار يبتدع بذكائه وسائل تلهيه عن نفسه ، وهو مايُعرف بالملاهى ، وأمسى يبرر لنفسه الأخذ بنصيبه من الملاهى علاجاً لأمراضه وتخفيفا لمتاعبه ، وإن كان يعلم فى أعمق أعماق نفسه أنه صار بها يتلهى عن نفسه هربا من نفسه.

          وعلى الرغم من أن هذه الحال هى حال الأغلبية العُظمى من الناس الذين صاروا مشغولين عن ذواتهم ، فهناك قِلة قليلة أدركت وتدرك أنَّ من الظلم لنفسها أن تملك عليها الشواغل مايبعدها عن الدخول فى أعماق النفس البشرية ، وهى تدين نفسها على إنسحابها إلى العالم الخارجى بعيداً عن ذاتها ، وهى كلما أصغت إلى ذاتها وجدت نداء فى أعماقها يصرخ فيها ويدعوها إلى الإجابة على أسئلة حائرة تنتظر الجواب. ولن يصمت هذا النداء قبل أن يجد من النفس ذاتها الإهتمام بأن تكتشف هى ذاتها الإجابة المقنعة المريحة للأسئلة الباحثة عن الجواب

          هذه القلة القليلة من الناس ، التى لاتجد فى العالم الخارجى شبعها الحقيقى ، على الرغم من وجودها فيه ، وأخذها ببعض أسبابه والتى تجد فى أعماقها نداء يصرخ فيها يطلب الجواب هذه القِلة القليلة غير القانعة بشواغل الحياة وجاذبياتها الخارجية ، ولا راحة لها حتى تدخل إلى داخل النفس ، مستجيبة لندائها هم الحكماء على الحقيقة والحكماء هم الذين عرفوا أن يحكموا أنفسهم وظروفهم ، وقد أمسكوا بزمام شئونهم ، فلا يَدَعَون الظروف هى التى تحكمهم ، ولايسمحون لعجلة القيادة أن تفلت من أيديهم ، لأنهم يؤمنون بأنهم كائنات مرسلة من عالم آخر فى رحلة يعودون بعدها ليقدموا لخالقهم تقريراً عما صنعوا وما أنجزوا من خير لبناء نفوسهم وخدمة الأغيار فى ملكوت الله الذى خلقهم على صورته ومثاله ليحققوا فى الوجود ، الخير والحق والجمال فها هو سيدّهم وخالقهم صانع الخيرات ، يعمل ولايتوقف عن العمل (يوحنا 5: 17) وهم أيضا على نظيره خُلقوا للعمل ولتحقيق الخير والحق والجمال.

          هؤلاء الحكماء لايتجاهلون الأسئلة التى يجدونها فى أنفسهم حائرة تفتقر إلى الجواب ولايهربون من أنفسهم ، ولايجرون وراء جاذبيات تشدّهم بعيدا عن ذواتهم ، وإنما أدركوا ويدركون أن مهمتهم فى الدنيا مهمة جدّ لاهزل ، ولذلك يستبعدون من طريقهم كل مايعوقهم عن تحقيق غايتهم من وجودهم فى هذه الحياة ، ومايغريهم عن العمل الدؤوب للتحقق بأهدافهم الجادّة غير الهازلة

          هؤلاء الحكماء ، لايزعمون أنهم حكماء ، إنما غيرهم من الناس هم الذين سموهم بالحكماء بالقياس إلى غيرهم من الناس الذين تسيبوا ولم يلتزموا بالقيم والمبادئ ، وجروا لاهثين وراء بهرج الحياة وزخرفها ، وبهرتهم الدنيا بشواغلها

          فسقراط وصفوه بالحكيم، فتواضع ، عن إدراك حقيقى لنفسه ، وقال : لست أنا حكيما ، ولم أبلغ بعد إلى ما أصبو إليه من الحكمة لكنى لا أنكر على نفسى أنى (محبُّ للحكمة ) فأنا فيلسوف FilosofoV  ، ومن بعد سقراط جاء أمثاله محبون للحكمة أو هم الفلاسفة

وقالوا لسقراط أنت عالم، فقال لمحدثه : أنا لا أجرؤ على أن أقبل وصفى بأننى عالم لا، ياصديقى ، لست أنا بعالم أنا مثلك جاهل ، وكل الفرق بينى وبينك ، أننى (عالم) بأننى جاهل

هؤلاء الحكماء أو الفلاسفة دخلوا إلى ذواتهم بعض الدخول ، فأدركوا حقيقة جهلهم ، وأدركوا أنهم بحاجة إلى أن ينسحبوا عن العالم الخارجى إلى دواخل نفوسهم لعلهم يفهمون ذواتهم على حقيقتها، ولعلهم يكتشفون الإجابة على الأسئلة التى يجدونها فى أعماقهم ، تصرخ وتطلب الجواب المريح

ولكنّ هناك فريقا من الناس كانوا أكثر جرأة من غيرهم، فقالوا إن الأمر يقتضى ، لا أن نعطى لذواتنا بعض الوقت نستبطنها ونستكملها ، ونجيب على أسئلتها ، إنما الإنصاف لنفوسنا يقتضينا أن نعطى وقتا أكبر، وإهتماما أعظم مما أعطاه بعض الفلاسفة وبعض الحكماء وهؤلاء هم الذين يسمونهم بالرهبان

 فالرهبنة فى صميمها فلسفة إنسانية عالية ، بل لعلها أعظم فلسفة إنسانية ، هدفها الأكبر بناء النفس الإنسانية وتنميتها وتكميلها بالفضائل ، فى سلّم صاعد إلى الكمال الإلهى ، قال المسيح له المجد : ( فكونوا إذن كاملين كما أن أباكم الذى فى السماوات كامل)(متى 5: 48)،(1.كورنثوس 2: 6) ، (فيلبى3: 15) ، (كولوسى1: 28) ، (4: 12) ، (يعقوب1: 4) ، (التكوين17: 1) ولاسبيل إِلى البناء والتنمية إلاّ على أساس واضح وسليم والأساس فى بناء النفس وتنميتها هو معرفة الإنسان لنفسه على حقيقتها معرفة صحيحة غير خادعة أو مخدوعة

ولكى يعرف الإنسان نفسه على حقيقتها لابدّ له من أن يدخل إلى أعماق نفسه، يستبطنها فيعرف مافيها من ضعف ومافيها من قوة ، وما فيها من خير ومن شر وهذا كله يحتاج إلى اهتمام وإلى وقت وإلى جهد وإلى صدق وعندما يستبطن الإنسان نفسه يعرفها على حقيقتها، بدخوله إلى أعماقها ، وإمتحان نفسه ، ثم يعطى لنفسه فرصة لتتكلم هى ، وهو يُنصت وفى الصمت وتسكين الحواس تتكلم النفس وفى الصمت وتسكين الحواس واستبعاد الشواغل والأفكار الطفيلية ، تشرق فى النفس المعرفة

والمعرفة فى هذا المجال هى :

معرفة تنبثق فى النفس بفعل الإشراق من قبل الروح القدس ، روح الله ، الذى عندما تتهيأ له النفس بالسكون والصمت والتأمل ، والتركيز العقلى ، يحدث الإشعال فالإشتعال ، كما يحدث مع الشمس إذا سقطت أشعتها على عدسة صغيرة عندما تكون العدسة فى وضع ساكن تستقبل فى تركيز أشعة الشمس الساقطة فى بؤرتها وعندما يتم الإشراق ، تحدث الإستنارة الباطنية فترى النفس ذاتها على حقيقتها فى غير غموض رؤية نقية خالصة بلا ظلال تفسدها ، أو تحجبها ومن هنا يبدأ الإنسان الساعى نحو الكمال يعرف طريقه فى تصحيح مسار حياته، بعد أن اكتشف عيوبه وأخطاءه ، كما أنه بالتأمل والإستبطان يعرف مالديه من مواهب وإمكانات يمكن بصقلها أن تتولد منها قدرات تحقق له المعجزات .

هنا أيضا تستيقظ فى قلبه أسئلة الحكمة التى كان يكتمها ولايصيخ بسمعه إليها ، عندما كانت تناديه أحيانا فى لحظة صفاء ، فكان يهرب منها ويتلهى عنها ، ويصمّ أذنيه عن سماعها

هذه الأسئلة هى أسئلة الحكمة التى يجدها كل إنسان حاضرة عنده ، تلِحُّ عليه أن يجد لها جواباً ، ولكن ليس كل الناس يهتمون بها، إنما قلة قليلة من الناس هم الذين يعيرونها إهتماما

 ولعلّ أهم هذه الأسئلة ثلاثة :

السؤال الأول  من أكون أنا ؟
السؤال الثانىلماذا أنا هنا فى الحياة الدنيا ؟
السؤال الثالثوماذا بعد هذا ؟

تلك الأسئلة واردة فى ضمير كل إنسان ، وهى أسئلة يجدها حتى الطفل الصغير فى نفسه ، ويسأل نفسه فيها، ويسأل أبويه فيها عندما يكبر فإذا أصبح شاباً حاول أن يجد لها جوابا فيما يسمعه من المعلمين ، وفيما يقرأه من كتب، وفيما يحضره من ندوات ومحاضرات ، وفيما يتوافر له من قراءات وقد كتب أحد الأدباء فى بلاد الغرب رواية طويلة عن شاب غربى أقلقته هذه الأسئلة الثلاثة ، وصارت تلِحُّ عليه أن يجد لها جوابا ً، فسأل عنها فلم يجد عند من سألهم جوابا شافيا ، ثم اختلف إلى المكتبات يقرأ الكتب فلم يجد فى كل ماقرأ مايريح عقله وقلبه ولما تعب فى البحث، إلتقى برجل حكيم ابتسم فى وجهه وقال له : لن تجد ياولدى فى كل بلاد الغرب جوابا شافيا لأسئلتك هذه ، فنصيحتى إليك إذا كنت مُصراً على مثل هذا البحث أن تذهب إلى الشرق وكان شوق الشاب إلى المعرفة جارفا فعمل بنصيحة الرجل ، وشرع فى رحلة إلى الشرق ، وقد كلفته هذه الرحلة ، أن يفسخ عقد الخطبة بينه وبين خطيبته التى وجدت فيه إنسانا مختلفا عنها ، ومشغولاً عن سعادة الحياة الزوجية ، فرحبت بفسخ الخطوبة

          أما الشاب فذهب بعيدا ً، وحط رحاله فى بلاد الهند، فقصد فى الهند أحد الأديرة على أحد الجبال النائية ، ووجد فيه أناساً عزلوا أنفسهم عن الناس ، فتقدم إلى الراهب الرئيس وسأله أسئلته ، وأبان له كيف أنّ إهتمامه بأن يجد لأسئلته جواباً اضطره أن يغادر بلاده فى الغرب ويقطع ألوف الأميال ويأتى إلى بلاد الشرق الأقصى فى سبيل أن يجد جوابا شافيا عن أسئلته ، بناء على نصيحة أسداها إليه أحد الرجال فى الغرب

قال الأب الرئيس : اعلم، ياابنى ، أن هناك طرقا ثلاثة يمكن أن يسلك الإنسان إحداها للوصول إلى الحقيقة التى يفتش عنها ، بحسب استعداده
قال الشاب : وما هى ؟
قال : هناك أولا طريق العلم ، وهو منهج العلماء الباحثين الذين يتقصّون الحقائق ، ويجاهدون بالتجارب العلمية، وبالقراءة والدرس والتفاوض مع العلماء لعلّهم يصلون إلى الحقيقة التى يبحثون عنها
والثانى هو طريق العبادة فالعبادة فى مكان هادئ ساكن ، مع الصوم والرياضات الروحية ، يمكن أن يتوصل بها العابد إلى الحكمة والمعرفة ، وهذا هو طريقنا نحن الرهبان اعتزلنا العالم بالتمام ، وأقمنا فى هذا الجبل ، نمارس العبادة فى سكون وصمت وتأمل مع إستبعاد جميع الشواغل التى تستبِّد بالنفس وهذا الأمر ليس بسهل لأنه يحتاج إِلى تدريب متواصل وتركيز الذهن وحصر الإنتباه ، وإستبطان للنفس ، وإنسحاب بالذهن إلى الروحانيات ، وشخوص فى القوة العليا التى تحكم هذا الكون ، فبعد زمن يختلف من واحد إلى الآخر بحسب درجة إلتزامه بالرياضات الروحية واستمراريته عليها ، يصل إلى الإشراق الباطنى ، أعنى أن نفسه تضئ من الداخل ، فترى مالم تكن تراه من قبل ، وتنبثق فيها أنواع من المعارف الروحية إنها مرحلة مضيئة مشرقة ، عندما يبلغها الإنسان يحصل على السلام الداخلى ، ثم السعادة الحقة ، كما أنه يجد فى قلبه إتساعا يحتضن فيه كلّ الناس وكل الخليقة ، فلا يكره أحداً ، ولايدين أحداً ، بل يمتلئ بالشفقة على كل الخليقة ، ويصير شبيها بالله فى مجيئه ورحمته ولطفه وطول أناته
وأما الطريق الثالث فهو طريق الخدمة فالإنسان اجتماعى بطبعه يجد سعادته ولذته فى الإجتماع بالناس فإذا وضع فى قلبه أن لايتقوقع على نفسه ، وأن يتخلى عن أنانيته ويتقدم لخدمة غيره ، يخفف آلام المتعبين ، ويعين المعوَّقين وأصحاب العاهات والحاجات ، يكتشف أنه إنسان نافع ، وأن حياته لها قيمة ، وأنه قد استطاع أن يُسعد غيره ، فيزداد شعوره بالسعادة ومن خلال خدمته للآخرين وإحتكاكه بالمحتاجين يجد الإجابة على أسئلته ، ويعرف من هو، ثم يعرف لماذا جاء إلى هذه الحياة فقد اكتشف الهدف من وجوده ، إذ صارصانعا للخيرشبيها بخالقه ومن ثمّ يجد جزاءه فى إحساسه بالسعادة

وحيث أنك شاب أتيت من بلاد الغرب خصيصاً ، فيمكنك أن تجرِّب طريقنا ، وهى طريق العبادة فهذا هو منهجنا فى البحث عن الحقيقة وعن السعادة
فقال الشاب : نعم ، ليكن ، وها أنا أمامك ياسيّدى فعلِّمنى
قال الأب الرئيس سأعطيك مكانا منفرداً تمارس فيه عبادتنا وطريقتنا ثم أمره أن يخلع ملابسه الفرنجية ويستبدلها بزى فضفاض متواضع ، وقاده إلى مكان هادئ ، وأرشده إلى منهج الصلاة والتأمل مع الصوم والزهد فى أنواع الطعام ، ثم تركه حراَ بعد أن زودّه بإرشادات فى التنفس والتركيز الذهنى والتأمل
وبعد فترة من الوقت امتدت شهوراً وصل الشاب إلى الإشراق الباطنى ، فأضاءت نفسه وأحسّ بالسلام يملأ قلبه ، وبالسعادة الباطنية تشرح صدره ، وعرف نفسه على حقيقتها ، وفهم معنى وجوده ، واتسعت دائرة إدراكاته ومن فرط فرحه مضى يروى للأب الرئيس خبرته ، ومدى ماوصل إليه من معرفة ، وهو بذلك سعيد سعادة تامة

          فقال له الأب الرئيس ، إنى سعيد بما وصلت إليه ياابنى، وقد أشرقت نفسك وحصلت لك الإستنارة ، وعرفتَ الجواب على أسئلتك والآن أنصح لك بأن تجرب الطريق الثالث طريق الخدمة فإِنى أخشى أن تواصل طريقنا، فيدركك الملل، فأنت غربى لاتناسبك حياة الرهبان المتعبدين القابعين فى الجبال فانتظارك معنا لايفيدك الآن ولذلك انصح لك أن ترتدى ملابسك الفرنجية ، وتنزل إلى العالم ، وتهب نفسك وحياتك لخدمة الآخرين على أننى أوصيك بأن تعمل على أن تسعد غيرك بأن تساعده فى تحقيق مايحتاج إليه ومايريده هو ، ولاتفرض رأيك على غيرك إنما اعمل لغيرك مايرضيه لا مايرضيك أنت وأطاع الشاب نصيحة الأب الرئيس وارتدى ملابسه الفرنجية ، ورجع إلى بلاده يخدم غيره ويعمل على إسعاد الآخرين بما يطلبونه ومايرجونه

هذا هو الذى يفسر لنا الباعث الذى يملى على قلة من الناس ، وهم الرهبان ، أن يعتزلوا العالم ، وينطلقوا إلى الأماكن النائية فى الصحارى ، ويسكنون المغارات فى التلال وشقوق الأرض ، يقنعون بالقليل من الطعام ، ويحيون هناك فى الصحارى حياة جافة قاسية ، محرومين من كل متاع ومن كل لذة حِسية ، يعانون الحرّ والبرد من دون أن يضطرهم أحد إلى ذلك ، وإنما باختيارهم ذهبوا ، وبإختيارهم ارتضوا لأنفسهم هذا النوع من الحياة التى وصفها أحد المعارضين للرهبنة بأنها حياة لاتليق بغير الحيوانات العَجْمَاوات

هنا يجئ السؤال : لماذا تترك هذه القلة القليلة من الناس الحياة الرخية فى وسط الناس ، وفى المدن والقرى المأهولة، ليعيشوا منفردين منعزلين ، ويرتضون بإختيارهم أن ينطلقوا ليحيوا هذه الحياة القاسية ، مالم تكن تثيرهم على ذلك رغبة فى حياة للنفس أفضل ، تتحقق بها السعادة الروحية ، والصفاء النفسى والسلام الباطنى ؟ وهذا هو الجزاء المبارك الذى يطمحون إليه ، وهو الذى يعوضهم عما يفقدونه بسبب عزلتهم ، من نعيم مادى ولذة حِسية فى طعام لذيذ وشراب ولباس وإمتاع للجسد وقد وصفهم الوحى الإلهى على فم القديس بولس الرسول فى رسالته إلى العبرانيين ( تائهين فى البرارى والجبال والمغاور وكهوف الأرض) (العبرانيين11: 38) وانظر واقرأ عن رجال من العهد القديم عاشوا رهبانا فى الجبال من أمثال إيليا النبى ، وأليشع (01الملوك18: 4) ، (19: 9) فضلاً عن يوحنا المعمدان ، وقد قال عنه الإنجيل ( وكان يقيم فى البرارى إلى يوم ظهوره لإسرائيل) ( لوقا1: 80) ، ( متى3: 1) ،  (11: 7)

هؤلاء بشر مثلنا، قلة قليلة ، نعم ، لكنهم يريدون أن يبلغوا إلى الحكمة الحقيقية إنهم يرون الناس من حولهم لاهون عن أنفسهم ولاهون عن الحكمة. يأكلون ويشربون ويلبسون، ويتسابقون ويتنافسون ويتشاجرون ويتحاربون وفى سبيل لقمة العيش يتقاتلون ، وكل سعيهم لكى يحصلوا على مايأكلون وما يشربون ومايلبسون ومايسكنون – مشغولون بكل هذا ولكن عن أنفسهم غافلون أما الحكماء فزهدوا فى كل ذلك ووجدوه ( باطل الأباطيل كل شئ باطل ) ( لاتشبع العين من النظر، ولاتمتلئ الأذن من السماع) ( أنا الجامعة ملكت على إسرائيل بأورشليم رأيت جميع  الأعمال التى عملت تحت الشمس ، فإذا الكل باطل وقبض الريح) ( الجامعة 1: 2، 8، 12، 14 ) ، ( 12: 8) وآمنوا بقول المسيح له المجد ( أقول لكم : لايشغلكم الهمّ لأجل حياتكم بشأن ماعساكم أن تأكلوا أو تشربوا ، أو لأجل جسدكم بشأن ماعساكم أن تلبسوا أليست الحياة أهمَّ من الطعام ، والجسد أهمَّ من اللباس؟ فلا تهتموا إذن قائلين ماذا عسانا أن نأكل أو ماذا عسانا أن نشرب أو ماذا عسانا أن نلبس فهذا كله يسعى فى طلبه الوثنيون ، لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبرّه) ( متى 6: 25-33) ، (لوقا 12: 22-31)

من أكون أنا ؟

أدرك الحكماء والفهماء ومحبو الحكمة أن الأولّى بإهتمامهم هو أرواحهم ومصيرهم فى الحياة ، وبعد الممات.
قالوا : لماذا نتشاغل عن أنفسنا بأمور مهما بلغ من أهميتها فى الدنيا ، لكنها زائلة ( لأن هيئة هذا العالم فى زوال ) ( 01كورنثوس 7: 31) ؟ ولماذا لانهتم بالأحرى بما هو أبقى وأدوم وألزم لحياتنا الأبدية ؟ ولايستطيع الباحث عن الحكمة أن يتجنب أولا سؤاله عن حقيقته وهويته إنه لايمكنه الهرب من هذا السؤال البالغ الأهمية ، السؤال الأول فى ترتيب الأولوية الذى تبحث عنه نفس الحكيم

من أكون أنا ؟

لقد قُذف بى إلى هذا العالم بغير إرادتى وُجدت فى الحياة من أب ومن أم ولكن ترى من أنا ؟
إن أبى وأمى اللذين ولدانى لايعلمان قبل أن يلدانى من أنا وماذا سأكون ، لايعلمان إذا كنت سأكون ذكرا أو أنثى ، ولايعلمان إذا كنت سأكون خيّرا أو شريراً ، صالحا أو طالحاً ، لايعلمان إذا كنت سليما أو مريضا ، سويا أو مشوها هما أصل وجودى ، ومع ذلك لايعلمان عنى على الحقيقة من أنا ، وماهو كيانى ، وماهو جوهر إنّيتى ؟
ليس هذا السؤال تافهاً ، وليس مجنونا إنه سؤال يفتقر إلى جواب حقيقى .

فى أحوال نرى إنسانا بالغاً أصابته صدمة نفسية أو عصبية فنسى من هو ؟ يسألونه عن اسمه فيقول : لا أعلم ويعيدون عليه السؤال ، ويعيد على نفسه السؤال ويشحذ ذاكرته ، فلا يعرف من هو ، وكأنه قد انقطعت كل صلة بينه وبين الإنسان الذى عرفه الناس باسمه فيسمعون منه الجواب : إنه لايعرف من هو ، فيذهلون ويتعجبون ومن الناس من لايصدق أنه قد نسى فعلاً من هو ، فيقولون إنه يكذب أو يخفى نفسه لأمر ما ومِنَ الناس من يقول إنه أصابته  لوثة عقلية أو جنون ، كيف لايعرف من هو ؟ أو كيف يجيب على من يسأله عن هويته فيقول : لا أعلم ؟ ومِن الناس من يُصاب بتصلب شرايين المخ ، فينسى كل شئ حتى نفسه ويسألونه عن نفسه من هو ؟ فلا يعرف عن نفسه شيئا ، ويسألونه عن اسمه  فيقول : لا أعلم. وكل من الإثنين : المصاب بصدمة عصبية أو نفسيه ، والمصاب بتصلب شرايين المخ ، صادق عندما يسألونه عن نفسه فيقول لا أعلم من أنا ؟ وما أكثر مايحدث بيننا ، من هؤلاء وأولئك : من يسألونه عن هويته وعن حقيقته ، فلا يعرف من هو وحتى الذى يسألونه عن اسمه فيجيب إجابة مُرْضَية ويذكر اسمه كما تسمّى به منذ طفولته ، فهل إجابته دليل قطعى على أنه عرف من هو على الحقيقة ؟ إنه يردد الإسم الذى أطلقوه عليه منذ ميلاده ، وعُرف به بين الناس إنه يردد ماهو معروف به بين الناس ولكنه هل يعرف حقا من هو ؟

من أنا ؟

ويبقى مع ذلك السؤال قائما ً: من أنا ؟ هل أنا كائن من بين جملة الحيوانات التى خلقها الله ، تتنفس وتتغذى وتنمو وتتكاثر، وتحس باللذة والألم ، وتتحرك فى الأرض ، أم أنا كائن متميز عن سائر الحيوانات والحشرات بالعقل والحكمة والفهم والقدرة على الخلق والإبداع والإبتكار، بفضل الروح العاقلة الناطقة وإذا كان الأمر كذلك ، وأنا الذى خلقنى الله ربى على صورته ومثاله ( التكوين 1: 26، 27) وجعلنى سيّدا متسلطا على جميع الكائنات دانيها وعاليها ، وقال الرب خالقى : ( لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلط على سمك البحر وعلى طير السماء ، وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التى تدب على الأرض) وقال لآدم أبينا ولنسله فيه ( املأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض) ( التكوين 1: 26- 28 )

فأنا الإنسان إذن كائن خُلقتُ إلها صغيرا على صورة الإله الأعظم ومثاله ، ولذلك فلى كرامتى كإنسان ، وهى من كرامة سيّدى وخالقى قال الله ( ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء مع كل مايدب على الأرض وكل أسماك البحر إِنها مسلَّمة إلى أيديكم ) ( التكوين 9: 2، 3) فلا يليق بى وبإنسانيتى أن تستعبدنى رغبة ما أو شهوة ما إننى  سيّد لا عبد أنا عبد لسيّدى الواحد الذى خلقنى ، ولكنى لست عبداً لشهوة ما ولا رغبة ما ، إِنى بروحى العاقلة يجب أن أحكم كل شهوة تجذبنى إلى ماهو دون طبيعتى مما يليق بالحيوانات العَجْمَاوات إنى آخذ من الطعام والشراب واللباس ما أنا بحاجة إليه لقيام جسدى ، ولكن بيدى اللجام الذى أزمّ به على دابتى ، التى هى جسدى ، فآخذ منها ما أريد عندما أريد ، وأعف عنها عندما أريد ، ولن أدع اللجام يفلت من يدى حتى لاتسوقنى شهواتى أو تدفعنى غرائزى إلى ما لاترضاه كرامة روحى السامية المخلوقة على صورة الله ومثاله

إننى أذكر ولا أنسى قول سيدى ومخلصى ( إن كل من يقترف الخطيئة هو عبد للخطيئة ، والعبد لايمكث فى البيت إلى الأبد وأما الابن فيمكث إلى الأبد) ( يوحنا 8: 34، 35) إذا عرفت من أنا ، فلن أمتهن كرامتى بأن أذلها لشخص ما ، ليخضعنى إلى مايريد هو ضدا لإرادة سيّدى إنى احترم كل إنسان أجد فيه الفضيلة بصورة لا أجدها فى نفسى وأحنى هامتى خضوعا لمن يعلونى سناً أو مركزا ، فأنا مطالب بشريعة السماء أن ( أعطى لكل واحد حقه المهابة لمن له المهابة والإكرام لمن له الإكرام)  (رومية13: 7) ، ولكنى لا أتنكر لمبادئى ومبادئ ربى وسيّدى فى سبيل إرضاء إنسان يعلونى مركزا أو منصبا لو أنه دعانى لإنكار مبادئى أو مبادئ دينى وإيمانى. إننى أطيعه كرئيسى فى كل ما يأمرنى به طالما أن مايأمرنى به يتمشى ولايتعارض مع أوامر سيدى الواحد، سيّد السيادات، ورب الأرباب . أما إذا أمرنى أو طالبنى بأن أتنكر لمبادئ سيدى الأكبر، فإننى أقبل الموت شهيداً لطاعة سيّدى الأعظم، ولن أنسى حينئذ كرامتى التى هى من كرامة سيّدى وخالقى

إنى من أجل السلام والمحبة أقبل أن أتنازل عن كلّ مالى فى الأرض فى سبيل خير أخى الإنسان ولكنى لن أقبل التنازل عن حق من حقوق الله خالقى فأنا أعرف من أنا أنا الإنسان المخلوق على صورة خالقه فحرام علىّ أن أشوه صورة سيدى وخالقى ، وأتلفها وأفسدها (فسيفسدنى الله ) ( 1.كورنثوس 3: 17) عندما أرجع إليه.

والسؤال الثانى :

لماذا أنا هنا فى هذه الحياة الدنيا ؟

الإنسان الذى يضيع منه هدف حياته يدركه الملل والتعب، وترهقه الحياة النمطية التى لاهدف لها ولا غاية منها يصحو الإنسان فى الصباح ، يتناول إفطاره ويرتدى ملابسه للخروج ، ويمضى ويسعى لكسب قوته وقوت عياله ، وفى عمله يلتقى بوجوه ، يلتقى بها عادة كل يوم، ويعود من عمله إلى بيته ، يأكل ثم يستريح بعض الوقت وقد لايستريح ، ويستأنف عمله بعينه أو عملاً آخر يُدّر عليه مزيداً من الرزق ، ويعود إلى بيته ، وينام سحابة ليله، ثمَّ ينهض فى اليوم التالى ليكرر مافعله بالأمس وإذا كانت حياة الإنسان فى الماضى كان يعتورها ، على نوع ما، بعض التغيير، بيد أن الإنسان المعاصر، فى عصر الآلة، ضاقت أمامه فرص التغيير والمفاجآت وصارت حياته رتيبة ، منتظمة بالساعة والدقيقة والثانية كل عمل محسوب زمنه ، متى يبدأ ومتى ينتهى وهو هو بعينه يخرج فى وقت محكوم بالدقيقة والثانية ، ويعود من عمله فى وقت محكوم بالدقيقة والثانية ، ويحيا فى زمن صار كل عمل مقسَّما إلى أجزاء ، وقد يكون على العامل مثلاً أن يقضى ساعات العمل فى نوع واحد من العمل ، أو فى جزئية تخصص فيها، ولايحيد عنها إلى جزئية أخرى تدخل فى إختصاص مسئول آخر وهذا العمل الروتينى يتكرر كل يوم مع هذه الحياة النمطية المتكررة يحدث الملل والسأم والضجر وهنا يسأل الإنسان نفسه : هل هذه هى حياتى ؟ هل أنا خُلقت من أجل هذا العمل النمطى ؟ إنى أشعر بفراغ فى نفسى وأسأل نفسى : هل أنا وجدت  فى هذه الحياة الدنيا لكى آكل وأشرب وأعول أسرة ثم أموت ؟ أليس من هدف أسمى يتمشى مع إنسانيتى ؟ ما الفرق بينى وبين الآلة الصماء؟ ما الفرق بينى وبين الدواب والمواشى والحيوانات العَجْمَاوات ؟

يالشقاء الإنسان عندما يفقد الهدف من وجوده فى هذه الحياة الدنيا إنَّ الدابة والحشرة تصير عندئذ أفضل منه ، لأنها لاتحس بما يحِسه الإنسان من ضياع عندما يفقد هدف وجوده إن حياته تمسى بلا معنى ويصير مثله مثل السفينة التى فقدت بوصلتها ، فتتخبط، وتفقد طريقها ، إنه يمسى تائها يبحث عن مخرج أو غاية ينتهى إليها وكأنه مع بنى إسرائيل فى برية سيناء فى صحراء التيه ( سفر العدد 32: 13) يسير فى طريق يظنه أنه سيؤدى به إلى مايُريد ، وبعد أن يصل فى الطريق إلى نهايته يجده مسدوداً فيعود من حيث بدأ ، ليبدأ من جديد طريقاً آخر، يعود بعده نادما لأنه أيضا لم يبلغ به إلى هدف!

أما الإنسان الذى عَرَفَ له فى حياته هدفا فما أسعده! إنه يناضل ويكافح ويعمل من أجل هذا الهدف، ولن يدركه الملل والسأم والضجر، التى تدرك من ليس فى حياته هدف. ثم إنه تزداد عنده قيمة الوقت ، وأهميته ، فالوقت سلاحه يشهره ضدّ الكسل والتراخى والملل ، وبه ينتصر ويتغلب على مايعترض حياته من صعوبات فمادام يعلم أن لحياته هدفاً ، فهو سائر نحو هدفه لايبالى بالعقبات حتى يصل

يقول القديس أوغسطينوس فى إعترافاته ( ياإلهى ، إنَّ النفس تظلُّ قلقة ، ولن تجد الراحة إلاّ فيك )

هنا الفرق الواضح الواسع بين المؤمن والملحد المؤمن هدفه واضح عنده إنه يؤمن بأن الله خالقه ، وقد خلقه وأرسله إلى العالم لمهمة سامية ، أن يعمل مع خالقه ، ولحساب سيّده ، ينشر الخير، والحق والجمال ، يعمل ويخلق ويبتكر ويبدع بما وهبه الله من عقل وقدرات على صورة خالقه ومثاله وقدراته هى وزناته التى أرسله بها سيده ليتاجر بها ويربح ثم يعود إلى خالقه بوزناته وأرباحها فينال عن عمله رضاه وجزاءه المبارك ، ويسعد بدخوله فى حضرته ، ومعاينة جلاله ، وبما يضفيه عليه سيده فى ملكوته من كرامة ، بعد أن يسمع من جلاله رأيه السعيد فيه (أحسنتَ أيها العبد الصالح والأمين بما أنك كنتَ أمينا فى القليل سأقيمك على الكثير ادخل إلى فرح سيدك) ( متى25: 21- 23)

ويقول الوحى الإلهى على فم القديس بولس الرسول ( لأننا نحن عمله ، مخلوقين فى المسيح يسوع للأعمال الصالحة التى سبق الله فأعدها لنسلك فيها)  (أفسس 2: 10) ثم يقول ( أسعى لعلّى أدرك الذى لأجله أدركنى أيضا المسيح يسوع أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا فى المسيح يسوع) (فيلبى 3: 12- 14)

فما أسعد الإنسان الذى يعلم ويؤمن أنه جاء إلى الحياة الدنيا مرسلاً من الله ليحقق هدفاً خلقه الله من أجله إنه صاحب رسالة ورسالته فى الحياة أن يحقق الخير فى الدنيا لنفسه وللأغيار، وأن يجاهد ويسعى لإنجاز رسالته ومهمته ولايضيع وقته فى تفاهات وفى أمور صغيرة ليس يليق به ، وبشرف مهمته ورسالته الخطيرة أن يصرف همه فيها ، متغافلاً عن رسالته العليا ، الخليقة به فإذا أنجز مهمته وأتمَّ رسالته فى حياته ، مضى بالموت سعيداً ، يحمل أعماله الصالحة بين يديه ، فينال من سيده الجعالة والمكافأة ، لأنه عرف الهدف من وجوده فى الدنيا ، وحقق الهدف الذى من أجله أرسله سيّده إلى الأرض.

 وهنا الجواب على السؤال الثالث والأخير :

وماذا بعد هذا ؟

يقول المسيح له المجد: ( فمن تراه ذلك العبد الأمين الحكيم الذى يقيمه سيّده على عبيده فيعطيهم طعامهم فى حينه ما أسعد ذلك العبد الذى متى جاء سيّده وجده يفعل هكذا الحق أقول لكم إنه يقيمه على كل أمواله ) ( متى 24: 45- 47) ، ( لوقا12: 42- 44) ، (22: 29) ، ( سفر الرؤيا 16: 15) ( أحسنتَ أيها العبد الصالح والأمين بما أنك كنتَ أمينا فى القليل سأقيمك على الكثير ) ( متى 25: 21، 22).

وقال أيضا المسيح له المجد ( إنى أقول لكم : إنَّ كلَّ من له سيُعطى) ( لوقا 19: 26) ( فإن من عنده يُعطى ويُزاد ) ( متى 13: 12) ، (25: 29) ، (مرقس4: 25) ، (لوقا 8:18) والمعنى أنّ من له عمل ، ومن عنده ثمر ، يُكافأ بأن تزاد له وزناته ومسئولياته. فمن ربحت وزنته عشر وزنات، قال له سيّد الكل (أحسنتَ أيها العبد الصالح ، وإذ كنتَ أمينا فى القليل ، فليكن لك السلطان على عشر مدن) ( لوقا 19: 16، 17) وإذن فمن يُنجز مهمته ، ويتمم مسئوليته ، بأمانة وإخلاص ، لايُكافأ فقط بالجزاء الصالح المبارك بدخوله إلى فرح سيّده ، بل إنَّ سيّده يرفعه إلى مسئوليات أخرى أكبر ويقيمه على أعمال أخرى أعظم منها ، إذ أنه بعمله قد أثبت فعاليته فى العمل ، وكفاءته وجدارته فى خدمة سيده فى ملكوته

وهذا هو المفهوم أيضا من قول الوحى الإلهى على فم القديس يوحنا الرسول : ( أيها الأحباء ، نحن الآن أبناء الله ، ولم ينكشف لنا بعدُ ماذا سنكون ، غير أننا نعلم أنه متى ظهر سنصير مثله ، لأننا سنراه كما هو ) ( 1. يوحنا 3: 2) ومن هذه النصوص المقدسة الإلهية تتضح لنا هذه الحقيقة الجميلة المشجعة أنّ طريق الإنسان إلى الترقى والصعود فى مراقى الكمال ، طريق مفتوح إلى الأبد ، وإلى ما لانهاية

          إن القداسة فى حياة الأبرار والصديقين هى درجة المقبول فى ملكوت الله ( القداسة التى بدونها لن يرى أحد الربَّ) ( العبرانيين 12: 14 ) على أنّ القديسين فى الملكوت لن يتوقف نموهم فى النعمة والمعرفة وإنما هم مدعوون إلى الترقى إلى ( إنسان كامل ، إلى قياس قامة ملء المسيح)(أفسس 4: 13) فى (العرض والطول والعمق والعُلوُّ إلى كل ملء الله) ( أفسس 3: 18، 19)